حين سمع عبدالرحمن، من بعض الناس، ما يقول بعض الناس عنه، أنه «مخيبري» عند الإنجليز، في البداية جفلت عيناه، واستطعم لزوجة الذهب الذي يصطف في فكه العلوي، لكنه.. كمن تدرب على تلك الحالات، سعل وضحك في الوقت نفسه، وكأنه يريد أن يبدد بغتة السؤال، وقال: «الإنجليز يحبون الذين يشتغلون معهم مثلهم حُمر، وأنا أشبه براعي في منطقة جدبة، لا يطعم غنمه، ولا يسلم من حرقة العطش والشمس»! وحين يجد المتسائلين وقد همدوا قليلاً، يفرحهم بحكاية عن نساء عرفهن في أسفاره، وفي ميناء عدن، واصفاً الإثيوبيات بعربات النار المندفعة، والفيتناميات بملمس التربة الحمراء الناعمة، والعدنيات بالغنج كله، خاصة إن تحلّت إحداهن بتلك الدَرّاعة الخفيفة، وتدخنت باللبان والمسك، يضيع المتسائلون حينها، وتضيع الحكاية، وحده عبدالرحمن يشعل سيجارة من العلبة الزرقاء والبيضاء «روثمان كنغ سايز»، ويكاد أن يمد رجليه مستريحاً.
كان عبدالرحمن يتردد على مطعم يمني افتتح حديثاًً بجانب ملعب بلدية العين القديمة، ثم يعرج على مقهى، وأشبه بمطعم خاص بالصوماليين الذين وفدوا مجدداً للعين للعمل، كان في مكان قصيّ في منطقة المعترض، عبدالرحمن كان قليل الأكل، بحيث لا يدري متى يجوع، ومتى يأكل، غير أن بعضاً ممن يجتمع بهم في آخر المساء، يقولون إنه يأكل وجبة أسد بعد أن يطارح معهم زجاجات كانت تتسرب لهم من بعض الجنود الإنجليز في مركز قلعة الجاهلي، ويتبادلون معهم ما كان يبيعه ذلك الإيراني أو يعرضه ذلك الأفغاني من «ترياق»، والذي يدخنونه مشتعلاً في عنق زجاجة «بيبسي» مكسورة، ومحشوة بقصدير علب الدخان.
الشيء الوحيد الذي لم يعرفه الناس عن عبدالرحمن، كيف يتدبر يومه؟ خاصة وأنه لا يحطب، ولا يكدّ السخام، ولا يعرف أن يُحَدّر النخل أو يخلبه، ولا يعرف حتى كيف يردّ الفلج، فقط كان يمر على بعض دكاكين أهالي العين، وبجمع حساباتهم التي كانت لها بالدين، ويسجل ما على عباد الله، وفي ذمتهم، لكن أجره من تلك الدكاكين الصغيرة، كان شيئاً من سكر، وشاي، وشيئاً من طحين ورز، خاصة أن الكثير من أصحاب تلك الدكاكين المواطنين يعرفون ما على الآخرين بما تخزّن ذاكرتهم وصدورهم، وأن ما يفعله عبدالرحمن ما هو إلا اقتداء بنصيحة القرآن والسنة بتدوين الدَين، وأن «الدفتر رادي عليهم».
ظل عبدالرحمن في تلك الحجرة الطينية التي تظللها شجرة السدر العودة، قرابة السنتين مما يَعُدّ الأهالي، وبعضهم يزيد، كان خلالها لا يمارس إلا كل طقوسه اليومية المعتادة، لكنه كان كل يوم يكتسب أصدقاء ومعارف مختلفين، وبعضهم من المارين العابرين، لكنهم كانوا يتوقفون عند صومعة الظل تلك، ويفرحون بما يقدم لهم عبدالرحمن من أشياء كثيرة غامضة، ورموز من طلاسم لا يعرفها إلا هو، وتسلك بها دروبهم.
في يوم.. ربما كان الثلاثاء، ووجهه مغبَرّ، توقفت سيارات تابعة للجيش البريطاني «تي. أو. إس»، وحملوا عبدالرحمن العدني ببطانية عسكرية رمادية، ذات وبر صوفي، وجاء في تقريرهم المرفق، وجد ثائر أحمر، تابع للحزب الماركسي، كان يسهل انتقال الأسلحة للمقاتلين في ظفار، وفي حوزته جهاز «ويلس، ودوربين، وحبر سري، وصورة بالأبيض والأسود، وافانا بها جهاز «MI6» تظهر «تروتسكي عدن»، وهو يتقلد النجمة الحمراء من رئيس الحزب الشيوعي المركزي!