كان لذاك الوجه الباسم نبذة من عالم يتجه نحو البهجة عند كل مساء، وقبل أذان المغرب، لتلتئم الأصابع عند سفرة الإفطار، وتتوقف الألسن عن مضغ اللغة وانشغالها بمداعبة كريات اللقيمات، وأجنحة رغيف الرقاق مغموساً بمرق اللحم.
وبعد صلاة التراويح كان ذاك الرجل المتكئ على شيخوخته يتعكز تحت عباءة الليل باحثاً عن خطوات آمنة لا ترديه في حفر الأزقة وحصواتها المتناثرة مثل جند مهووسين بإدماء الأقدام.
يمر على الأبواب ملقياً السلام، متسائلاً عن صحة أصحاب المنازل، والتي شرعت أبوابها منذ مطلع النهار حتى منتصف الليل، حيث كان الصغار يحتفلون ليلاً بالشهر الكريم، والنساء ينشغلن بإعداد الطعام لضيوف ما قبل السحور، حيث القرى والمدن تزخر بالضوضاء اللذيذة، ورائحة دخان المطبوخ على نار السجع الرمضاني، تعبق الأجواء، وتملأ المزاج بنشوة روحانية يعيها من سهر الليالي تحت ضوء القمر مكتنزاً بمشاعر أشبه بنيرفانا تصوفية، عميقة الجذور، ذلك الرجل كان يسحب قدمين أشبه بعصاتين خاويتين، ولكنه يسير بإرادة زمنية صلبة كصلابة الحلم في عينيه المسغبتين، كان الرجل يحث الخطا بين الأزقة من بعد صلاة التراويح وحتى منتصف الليل، يجوس بقلب مفعم بالود، والعرفان لمن جاورهم على مدى سني العمر، كان شيخاً ورعاً، لبقاً، حثيث اللغة، طليق اللسان، وبرغم أنه لم يستق علمه إلا من شذرات معرفة دينية بسيطة، ولكن لأن لديه من الفصاحة الفطرية كان يملك ألباب محدثيه، كان يستولي على مشاعر الآخرين
لامتلاكه معجماً لفظياً ساحراً، ينفذ إلى القلوب، كما هي خيوط الشهر المنسابة من شمعة الشغف.
كان هو في الحقيقة فاكهة رمضان، كان لصوته الفريد، وهو يرفع الأذان نغمة شجية، تتسرب إلى المسامع مثل هديل الطير، مثل شجو الموجة، مثل دندنة الجداول.
كان الرجل في رمضان الطلقة السماوية التي تأذن للصائمين بالإفطار، كما وتدعوهم للإمساك، فهو كان الموعد مع الفرحة، وكان في الزمن شروقاً وغروباً، لأنه كان مع الشمس يكمن في ضمير الوجود، ويؤصل للمكان تاريخ حياة كانت بدهية، عفوية حتى انكسرت أطباق المنازل وتوارت التنانير، واشتد أزر الطعام الجاهز بكل سوءاته، وسيئاته، وانتشرت بين الناس مشاعر أشبه بدخان عوادم السيارات، تخنق الأنفاس، وتعلق في الصدور مثل فيروس قاتل.
اليوم عندما يحضر ذلك القويم الحليم تحتشد في النفس جيوش من الصور الجميلة، وتغرق العين في محيط من المشاهد المثيرة، والقلب يحصد حسرته، ويغلق أبوابه ويتكئ على ذاكرة خوت، وذوت أوراقها، ولم يبق غير التأمل في الصفحات المطوية.