يشد حصاره علينا كل ثانية، كأننا سجناؤه المؤبدون.. يراقبنا أين ما اتجهت خطانا، يترصدنا في الفرح والحزن، في الصمت والعزلة والشارع.. في يقظة الصباح وفي النوم الذي نشتهيه كي نستريح من ضجة النهار، إنه لص يسرق الفرح القليل الذي يطل من كوة صغيرة على حياتنا.. يحاصرنا هذا الفزع المحمول، ونحن نعتقد أننا نختاره بإرادتنا، رغم أننا نعرف أننا مرغمون على اختياره باسم الحضارة، حتى بات كل فرد يحمله في ثنايا ملابسه، في مشاغله وفراغه، في جده ولهوه، في السرير والحمام، في الشارع والبيت والحديقة والسيارة والطرقات، كأنه عقاب كلما أوشك أن يستوفي مدته تجدد، محكومون به ومحكوم علينا أن نحشوه بعرق الكد وثمن اللقمة، في حصاره يخترق صفاء أروحنا وطاقة تفكيرنا، إذ يشتتنا في الرد على رنينه المفزع، كأن الرد شرط تحضرنا..!.
كان الصديق والقريب يطرق الباب فننصت ونتريث كي نفتح له ونقول مرحباً، صار يقتحم السمع مباشرة بفجاجة رنينه الذي نتحايل عليه بمقطوعات غنائية شاع انتشارها، وعندما نسمعها، نعرف أنه رنين الحصار فنلهث كي نرد، وينهب الرد دقائق أعمارنا ولحظات هدوئنا، يلص على حياتنا هذا الجهاز المفزع الذي ابتكرته التكنولوجيا المعاصرة، فلم تعد ثمة أسرار وأمان في حياة الإنسان، في مسكنه، في مقر عمله، في خروجه أو دخوله، في يقظته ونومه، في أمره الخاص وأمره العام، في كل هذا ثمة لص يسرق ويبث ونحن نتوهم أننا نسرُّ إليه كما يسر الصديق للصديق.
قبل زمن ليس بالبعيد كان الناس إذا رأوا إنساناً يتحدث الى نفسه بصوت ويشير بيديه، رثوا لحاله وتمنوا له الشفاء من الجنون الذي ألم به، واليوم نرى الناس تضحك بصوت عال وتعبر بهزات رأسها وإشارات أياديها وهي سائرة في الشارع، فلا يلتفت أحد لغرابة المشهد ولا يدعو لها أحد بالشفاء من بلوى هذا الفزع المحمول.
كنت في زيارة لبيت أحد الأقرباء، وكنا نتحدث في أمور حميمة وأليفة، فجأة زعق الفزع المحمول، وإذا بمحدثي يقفز كالملدوغ ويهرع متعثراً بين الأثاث، حيث يتكئ المحمول على جهاز الشاحن، وداس على ذيل القطة الرابضة في دعة، فاختلط مواؤها بالرنين وبصوت صاحب البيت الذي لم يعد يتذكر من حوله، واستغرق في حوار يتخلله الضحك وإشارات اليد والرأس وكل التعابير التي يختلج بها الإنسان حين يتحدث بانفعال الى آخر، وبسبب من طول استغراقه في الحديث تسللت خارجة من دون أن أتمكن من توديعه..!.