في يوم آخر في تتارستان الجميلة، وأحاديث من حافلة مختلفة هذه المرة، كان صباحاً بارداً مشمساً، بتلك القشعريرة التي تنفضك بمتعة التكسل، وكانت رحلة جميلة أو الجمال هو من فرض نفسه علينا، بالنسبة لي شخصياً بصراحة، كان يمكنني أن أتغاضى عن الباص الذي يشبه سيارة عسكرية «زلّ» روسية، ويمكنني أن أتعلم إذا شددت على حالي اللغة الروسية في خمسة أيام، وبدون معلم، ويمكنني أيضاً أن أتساهل مع ضآلة المعلومات التي يمكن أن أستفيدها من هذه الرحلة، فقط لأن المرشدة السياحية التي تقودنا اليوم، وليتها دائماً من نوع مختلف، ومن الجيل الجديد المحسّن الذي لا تعرف متى كبر، وجه يشعرك بالصباح دائماً، بياض محمرّ، كعنب خالطه شيء، وهذا النوع يصعب أن يصدأ مع الوقت - خذوها مني- تبدو بعافية متكاملة، ولين كهشاشة رغوة الحليب، يمكنك أن تعد الزغب الساكن بهدوء جانب الرقبة، وثمة نظافة غير عادية في تجاويف الأذن، والشعر المعقوص يشبه سنبلة لوّحتها شمس خاطفة، يا لطيب هذا الصباح، وطيب رحلة ستدوم حتى المساء.
انطلقنا وأنا قابض على خيط من السعادة لا أدري ما هو؟ ما كان يعكر عليّ حديث المرشدة الذي يشبه قفزات عصفور مبتل، ذاك السائح العجوز الأصم الذي ربما نسي سماعة الأذن في الفندق، وظل يلوم زوجته المتصابية، وغير المكترثة، كان في وسط حديث المرشدة، يصرخ، ويصم آذان ركاب الحافلة، معتقداً أنه يتحدث بنبرة طبيعية، وهو في الحقيقة يسمّع نفسه التي لا تسمع، في البداية أجفل صراخه المفاجئ الركاب والمرشدة، وبعد أن تكرر طالباً من المرشدة رفع صوتها، صار الأمر محرجاً لتلك الصبية الشقراء بتلك الضفيرة التي تشبه سنبلة أحرقتها الشمس، كان يصرخ ويتحرطم بترجمة من الروسية رديئة من طرفي، لكنها بالتأكيد لا تتعدى: «طولي صوتك أو تنحي عن المنصة.. لا نسمع»! ويقصد نفسه، ولكن جمعها إما للتبجيل أو لأنه يريد إشراك الآخرين في معاناة ضعف السمع، كنت الوحيد المناصر والمساند والمعاضد، والمتطوع لشد إزر تلك المرشدة السياحية الطيبة، والأخذ بيدها، والقتال دونها، خاصة وأنها غير مدركة خفايا كل مواهبها التي لو كان عندي نصفها، والله ما عثرّت نفسي في هذه الحياة التي تتطلب جهداً ومجالدة وتحمل التأمر من الآخرين عليك، وتحمل مزاج بعضهم، ومناكفة بعضهم الآخر، خاصة في جلسات المتقاعدين، وهي صفة للمشاركين في هذه الحافلة، ومن دائرة النقل العام بالذات، والذين تعودوا أن يصارخوا على «حريمهم المتان»، لا سيما وقت المساء، قبيل الذهاب إلى الفراش، وهذه الصبية يرهقها إزعاجهم حتى أنها تعرقت المسكينة في جو سمته البرودة، كنت أريد أن أساعد، وأساعد جداً، لكن اللغة خانت بي، وعلبة المحارم الورقية لم تبق منها غير واحدة رطبة في يدي، وكم العواطف الذي كان يمكنني أن أضفيه على مرشدتنا الاستثنائية، كنت قد أهدرته في سنوات النضال الوهمي!