لا أخفي عليكم هناك فرح ينتابني كلما دخلت مطعماً إسبانياً، أشعر حينما أعثر عليه فجأة في أي مدينة، خاصة تلك المدن الأوروبية الباردة، والتي جل مطاعمها يشعرك خبزها البارد والمتهدل بأنها غير صديقة للروح أو المدن الآسيوية التي تلزمك مطاعمها باحترام متخشب لا يعني لك شيئاً كثيراً في الحياة، في المطاعم الإسبانية وحدها يتسرب لك ذلك الدفء الغائب، وتلك الحرارة التي تلقي بنشاطها داخل الجسد، وتوقظ فيه ما كان متكاسلاً ومتباطئاً وعابساً، ما أن تدخل من ذلك الباب الخشبي لأي مطعم إسباني، والذي يشبه لون القهوة المحروقة ببطء، والذي يخط على جوانبه بأحرف لاتينية كلمات ترحيبية أو عبارات تمتدح وجبات لم تتعود عليها، يعلوها اسم المطعم الذي يختارون له من الأسماء التي هي أشبه بعناوين قصائد شعرية قديمة، لكن الخير لك أن لا تجرب ما يكتب بطباشير على لوح أسود يسد عادة جانباً من مدخل المطعم، لأنها لأكلات تخص لحوماً مقددة لثيران عانت كثيراً في مصارعتها الأخيرة في تلك الحلبة الضاجة بأصوات مشجعين يفرحهم نزق الدم، ويتمنون موت أحد المتصارعين نهارها، الثور أو «الماتادور»، والخير لك أيضاً أن تدخل برجلك اليمين لأي مطعم إسباني، لأن التدين عندهم عادة لا يمكنهم التخلص منها، يؤمنون بالحسد والعين ولعنات أبليس، وشؤم بعض الحيوانات، لذا ستجد عناقيد الثوم والفلفل والبصل معلقة ومتدلية، ولا تعرف سر تلك الثمار لِمَ هي طاردة للشرور ومخاوف ما يضمر الإنسان الآخر من ثقافات ومعتقدات، وأشياء تشبه النفاثات في العُقد؟
ما أن تدخل في فضاء المطعم الإسباني الذي بالتأكيد لن يخلو من «زليج» أو بلاطات سيراميك أندلسية يغلب عليها اللون الأزرق الملكي «الاثول» حتى تتلقفك الأغاني الراقصة داعية إياك أن تتبع خطى ذلك الغجري المغني الهارب بأغانيه منذ عصور مديدة، ووقع كعوب راقصة الفلامنكو، وهي تتمايل بجسدها الذي يميل لسمنة محببة في النساء بعد وصول الثلاثين من العمر، فجأة تقعدك الأشياء، وترزّك على المقعد الخشبي الذي أشبه ما يكون مثل كرسي حلاق شعبي في قرية جبلية، لكن الأجواء التي تفيض من سحرها تجعلك تنسى كل الأشياء، صخب الزبائن، وثرثرات الإسبان التي لا تتوقف، وخطرفات النساء العجائز المتصابيات بتلك الزينة الفضية الكبيرة، والكحل والتبرج الذي يسحبك إلى حكايات طفولية نحو الغابة وساحراتها، وتلك الكاهنة بشعرها الرمادي، وعقصيها المتدليين على صدرها الأجوف، لكن من بين كل تلك الأشياء المتداعية في المطعم الإسباني الذي يشبه حطام سفينة شبه غارقة، تنبري في ذلك الفضاء الأسطوري وجه امرأة نسيها الجميع والوقت، تنتظر شاعراً مخموراً بالكلمات ليقول لها وفيها شيئاً مختلفاً.
في المطعم الإسباني لا يهم كثيراً ذلك الأكل حينها، ما يهم تلك الأجواء السابحة والتي تنثال في رأسك المتعب، طالبة منك البراءة من كل شيء، ومن أثقال الحياة، ومن ما يخلفه لك الآخرون في طريق خطاك، وكيف تناسيت ذلك الثوب الأسود الذي يُخَصْرّ ويختصر فتاتك التي بللها المطر، وهي تناظر من وراء نافذتها المواربة على الحياء، وكيف تغاضيت عن نفسك الأمّارة بالحب والخير، وتركتها عرضة للذين يهرفون بغثهم، ولا يعرفون جهلهم، لا شيء مثل مطعم إسباني جعله الله في طريقة ليلتها لينتشلك من تعبك، ومن سرقة فرحك، وممن لا يعرف أن يفهمك كطفل تعني له البراءة الشيء الكثير، ومن يبجلهم خجلك، وطيبة نفسك، ولا يعرفون تلك الألوان الجميلة في الحياة، ليحيا أي مطعم إسباني قادر أن يرسم ضحكة على وجه متعب في الليل.