في تجربة عشتها مؤخراً، تذكرت نظرية كنت قد توصلت إليها منذ ما يزيد على خمس سنوات، وليتني عشتها مسبقاً لأفهم بعض الأمور التي تبدو جلية للكثيرين فيما أبدو بينهم وكأني ساذجة. تعاملت مؤخراً مع حارس مبنى، وهي مهنة لا نعرفها نحن ممن اعتدنا السكن في بيوت بسيطة متفرقة لا حارس لها، وإنما عرفناه من خلال الأفلام العربية، حيث دائماً هناك دور للبواب فيها، فهو حامي العمارة وحارسها الأكثر معرفة بتفاصيل كل سكانها، وفي أغلب الأحيان الممسك بأسرارهم، ويبدو هذا غريباً كون هذه المهنة لا شروط علمية أو عملية لها، وغالباً ما يبدأ صاحبها بسيطاً جداً، فقيراً مغلوباً على أمره منفذاً لطلبات سكانها مهما بدت مُجهدة، غير أنه ومع الوقت تتضخم مهامه التي يحصل من خلالها على سلطات، ليتحول فجأة من حارس لمدخل بناية وحامٍ لها من تطفلات من هم خارجها، إلى قابض على أنفاس من هم داخلها!
المثير في الموضوع هو التحول في سيكولوجية هذه الشخصية على نحو غير متوقع، وهو ما قد يجعلها تتصرف بصلف ونزق وعجرفة في كثير من الأحيان، كأن يمنع دخول ضيوف لأحد سكان العمارة إلا بعد التحقيق معهم، أو أن يقدم معلومات شخصية عن أحد الساكنين لمن يدفع له، أو أن يزعج أحدهم بتعطيل بعض الخدمات له، كالتخلص من النفايات أو تعطيل المصاعد أو غيرها من الحاجات الخدمية التي يعلمها تماماً قاطنو تلك المباني. في فيلم «البيه البواب» -أحد أهم الأعمال الفنية العربية التي أنتجت في ثمانينيات القرن الماضي- كان البطل نموذجاً للتحول السيكولوجي الذي قد يصاب به صاحب هذه المهنة، وكيفية استغلاله لظروف العمارة وسكانها لتحقيق مصالحه الخاصة، ليصبح فيما بعد «بيه» بمعنى «السيد» ذي النفوذ الكبير الذي لا رادع له.
في نظريتي تلك، وهي إحدى النظريات التي جمعتها من خلال تجاربي المختلفة وعشتها بالمعنى الفعلي مؤخراً، استوعبت أكثر بعض الأمور والسلوكيات العصية على الاستيعاب، وأعتقد أني أستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه فيما بعد. وهو تفسير منطقي لكل التصرفات غير المنطقية التي قد يأتي بها بعض الفارغين ممن لا عمل حقيقياً لهم، غير أنهم متضخمون جداً، فتجدهم يتشبثون بأي أمر مهما بدا صغيراً «تافهاً» ليفرضوا من خلاله سلطتهم وقوانينهم المخترعة للتضييق على الآخرين، ليس لغرض سوى استجلاب الاهتمام لذواتهم وتحقيق منافع كثيراً ما تكون مادية، وأحياناً معنوية متلذذين بحاجة الآخرين إليهم واستعدادهم لاسترضائهم، وهو ما قد يفعله سكان العمارة المساكين لتسيير أمورهم.. وتسكين حياتهم!