نتذكر حينما كنا صغاراً، كنا نسمع بحكاية هذا الرجل القوي البطل «البهلوان» مرات نسميه كما نسمع من الأخبار بـ «شمشون العرب»، ومرات «شمشون الجبار»، فقد كان اسمه مرادفاً لادعاء الأولاد الصغار القوة والشجاعة والبطولة، وصاغ الناس من اسمه مترادفات لأمثال، «والله ما يهمني منك لو كنت شمشون» أو «منو فاكر عمرك شمشون» وغيرها من الأقوال، ونتذكر فيما بعد حين حظينا بالفرجة على ألعابه واستعراضاته في العين وأبوظبي وغيرها من الإمارات، كم كنا مستمتعين بذلك الحضور الشخصي، وحينما كبرنا قليلاً كنا نتتبع ونتابع أخباره عبر الصحف العربية، فصوره كانت أغلفة لمجلات لبنانية ومصرية واستعراضاته كانت تغطى في الصحف العربية، وأينما حلّ في البحرين والكويت والسعودية ومصر والأردن ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق وليبيا وغيرها، ولقاءاته مع السياسيين ورجالات الدولة والرؤساء والوزراء على صفحات الجرائد وفي الأخبار، كانت له شهرة مثل أي فنان كبير، وله معجبون في كل مكان، ومن مختلف البلدان والأعمار والمراكز الاجتماعية، قدم عروض اختبار القوة مثل كسر الصخر على بطنه وظهره ومرور السيارات على يده وقدمه، وجر السيارات بشعره، وحمل الأثقال بأسنانه، والنوم على الزجاج، وغيرها من أمور القوة الخارقة كرفع حمار بأسنانه.
نتذكر ذلك الرجل العملاق بشعره الطويل ولحيته الكثة، ولباسه الذي يشبه جلد النمر والأحزمة واللفائف الجلدية حول الخصر وعلى معصم اليدين، أطلق عليه الملك «حسين بن طلال» لقب «شمشون العرب» وأطلق عليه الرئيس «جمال عبدالناصر» لقب «شمشون الجبار»، لكنه رفض كلمة الجبار، واستأنس بلقبه الذي عمّ وشاع «شمشون العرب».
ونتذكر يومها كنا نفرح أن هذا الرجل من الإمارات، فقد خدم الإمارات إعلامياً، حينما لم يكن أحد يسمع بالإمارات إلا من خلال نشرات الأخبار في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، حين لم يكن لدينا لا وزارة إعلام ولا أجهزة وسائل الاتصال من صحف وإذاعة وتلفزيون، كانت «أفيشات» صوره مكتوب عليها «بطل دبي العالمي»، وكانت تزخر بها مسارح القاهرة وملاعب الأندية الرياضية والمدرج الروماني في عمّان، ومدن عربية أخرى في مدارسها وملاعبها ودور السينمات، كان يوسم بأنه بطل من الإمارات، وكان بمثلها بحضوره الطاغي وبمجهوداته الشخصية البحتة.
وحينما عاد لأول مرة من جولاته العربية التي كانت تمتد بالأشهر، وعلى حسابه الخاص، وما يجنيه من ريع حفلات استعراضاته، أمر المغفور له الشيخ راشد بن سعيد باستقباله استقبال الأبطال، وأمر أن يضاف لاسمه لقب «شمشون العرب»، وهو لقب طالما اعتز به، هذا اللقب موجود اليوم في جواز سفره، وبطاقة هويته، وجوازات وهويات أولاده وأحفاده الذين أورثهم شيئاً من موهبته، ودربّهم، وعلمهم فنون الصنعة وأسرارها.
كل تلك الأشياء كانت تنهال على رأسي وقلبي وجل، وأنا أخطو نحو الطريق لمنزل «شمشون العرب» الذي انقطعت أخباره إلا فيما ندر، وغلبتنا سنوات التطور والرجّة الاجتماعية والنهضة، والتسارع في كل شيء، حتى كدنا أن ننسى المحسنين والذين صنعوا أمراً جميلاً ومختلفاً في حياتنا الماضية، والذين تركوا بصمة في وقت العوز والحاجة وحرقة العطش، مضحين بكل شيء من أجل رفع سمعة بلد بالكاد يسمع به، واليوم نكاد ننساهم في عجلتنا، وغفوتنا وسهونا أو هم انسلّوا بصمت وسط كل هذا الضجيج الذي ما عاد يعنيهم، مكتفين بذلك الماضي المضيء.
كنت لوقت أعتقد أن «شمشون العرب» قد فارقنا في ظل كل هذا الغياب، وعدم الذكر، والجحود، فقلت لأبحث.. ولأنقّب، فلعل هناك خيط رفيع مثل الحرير يمكنه أن يوصلني إليه أو لأرثه، وما كدت أصدق أن الرجل ما زال على قيد الحياة حتى طبعت قبلة على رأسه، وقال أنا «علي بن حسن» يا ولدي، ويعرفني الناس بـ «شمشون العرب»، فخرّت دمعة صادقة فرحاً به حياً… وغداً نكمل