كان ينتابني شعور القلق والتخوف من تلك النظرة المنكسرة التي يخلفها هروب العمر أو انزياح خيوط الشهرة والمجد التليد، وهذا في حدّ ذاته يعصر القلب، ولا يجعله ينتظم في رقصه المعتاد، ويخلف في النفس ذلك الأثر من التحسر على زمن جميل انقضى، ورجل من عافية ووقت ودّع أشياءه، وبقي ينتظر مرور الساعات الطويلة في نهاره المتقطع بغفران النوم، وعدم نسيان تناول بعض الحبوب والأدوية المعتادة في خريفه الرمادي، كانت هناك تصورات في الطريق لمنزل «شمشون العرب»، ترى كيف سيكون ذاك الرجل الذي عرفناه في صغرنا قبل نصف قرن؟ وهل أبقت السنون شعره الطويل سر قوته التاريخية أم أن للزمن ضريبته؟ هل ما زالت شهيته للأكل، والتي كانت كشهية أسد جائع هي.. هي، أم أن أمراض الوقت، وأوامر الأطباء تجعله بالكاد يشبع عينه فقط؟ ماذا تبقى من ذلك الجسد الفارع كعود شجرة عتيقة، هل انحنى الظهر، وقصرت القامة شبراً، وترهل البدن حين تذوي تلك العضلات التي كان تمر عليها عجلات الشاحنات، وتكسر عليها الصخور أو تنام على الزجاج المكسور؟ أفزعتني فكرة سحب الأسد من غابته ومملكته، وفرض التقاعد عليه في سيرك محلي متجول، الأسد لا يقرب السيرك إلا إذا نزعت أسنانه أو حطمها تقادم السنين، ليضل طريقه الذي يعرفه، ويظل منتظراً ما يرمى له من لحم، لا ما كان ينهشه ليتلذذ به، طردت فكرة ذاك الأسد الهصور، وسجن السنوات المتأخرة من عمره، وكيف ضاقت، وتضيق به الأشياء.
كان الفرح بلقائه، وأنه ما زال حيّاً وسط أبنائه وبناته وأحفاده، وإن تفرقوا، وسكن كل واحد منهم بيتاً واستقل بأسرته الصغيرة، ومنزله القديم خلا منذ وقت من «دليلة»، تلك الزوجة الصابرة والمقاومة والمشاركة كل لحظات تألقه، وحزنه، لكنهم يجمعونه بهم، ويتجمعون له ومن أجله، وكلهم اعتداد وفخر بذلك الفعل الذي جعله متميزاً متفرداً، وقدم الكثير من الخدمات لوطنه والشهرة حين لم يكن لدينا أي مؤسسة أو أفراد ممن يمكنهم أن يصنعوا الفرق، ويرشدوا العالم إلى موقعنا الجغرافي، ومن نكون، وكيف نكون، كان «شمشون العرب» يصيح بالإمارات وبدبي في كل تلك المدن التي زحف إليها بدراهم جيبه القليلة، ومن ريع استعراضاته، وما يقدمه له المعجبون والمحبون في البلدان العربية التي كان يهمها يومها معنى العروبة والانتماء لها، ومعنى «سجّل أنا عربي»!
بعد الترحيب بكل الكرم الذي يعرفه ويبديه نحو الآخرين، عرضت عليه كمحب للوطن، وعاشق للناس الأولين، ولا أحب أن أنسى صنيعهم وتضحياتهم وتعبهم، وخاصة الرجال القدوة، والذين اليوم نعيا لكي نجد منهم ومثلهم لنقدمهم إلى أجيالنا الجديدة التي تَغَرّب اللسان فيها، وتغرّبت الاهتمامات، وصار القدوة شخصاً لا ينتمي للمكان، ولا رائحة الأوطان، لا مانع لديهم حتى لو كان مطرباً ومراهقاً كورياً، لا يحمل في رأسه غير ذاك الشعر الواقف بـ «الجل»!
قلت له: اقبل اعتذاري، فقد كنت أتمنى أن أراك من قبل، وأجلس معك من قبل، لكن أحمد الله أنني حظيت بلقائك، لديّ شيئان عليّ أن أنجزهما يخصانك، ويخصاني، ولا تسألني عن السبب، غير أنه الحب، وأن العمل الجميل والطيب لا يُسأل صاحبه عنه، ولا لِمَ صنعه، الأول كتاب عن سيرتك للإمارات، ولأولادك وأحفادك ولأجيالنا المقبلة، والثاني فيلم طويل عنك، أجعلك وأجعله يجوب العالم كما كنت تفعل في قوتك، وأزوّركما بلداناً عرفتها وأخرى لم تعرفها، عرفاناً بكل ما قدمت وأعطيت وأنجزت وجعلت كلمة الإمارات ودبي تسبقك لكل بلدان العالم، وما قد أستطيع أن أعمل من أجلك وإيصال صوتك سأفعل.
بقي ودي لو أني أرى له منزلاً يليق به وبكل ما صنع لدبي والإمارات يقضي فيه بقية عمره مع أحفاده وأولاد أحفاده، ويهتمون به كربّ لأسرة لم يقصّر معها ومن أجلها، وأن يُسمى شارع باسمه، تذكيراً وتخليداً له ولما قدم للإمارات في ذلك الزمن البعيد، وأن يصدر طابع بريد لنسجل له شكر الإمارات له، ومثله يستحق.. ويستحق الكثير.
ودعت ذلك الرجل المهيب على الكرسي المتحرك، وبعد ثلاثة أيام تصوير وتسجيل وتجميع لكل صوره وأرشيفه، عرفت أنه أعمى.. ما أقوى البصيرة حين نفقد البصر!