من شرفة في المنزل، تطل على الشارع، تلهمك الحركة بما يشبه تسييل الدم في الجسد، فتشعر بنشاط أشبه بموجة تتحرك تحت الجسد، وتوشوش لك، تقول لا تتوقف، في الحركة بركة، فتقدم، وفي التقدم يحدث الكمال.
الطير في السماء يدير حركة المراوح الهوائية بشكل لافت، فترى الأجنحة ترفرف، وأحياناً تحلق، وما بين الرفرفة والتحليق، هناك كائن صغير يرفع النشيد للوجود، ويبحث عن أليف أو طعام لصغار يفغرون الأفواه بانتظار بذرة ترتب حيويتهم، وعلى الأرض يبدو الشارع مثل سلسال من ذهب، بفصوص بألوان مدهشة، والأبواق ترتل موسيقى هيابة، تضيف إلى المكان رونق الأنس، ولذة العيش في مدينة تزدهر بالحياة والحب والجمال، وأنت من خلال الشرفة، أنت من خلال ذاكرة تستدعي أيامك، وتبعث بأحلامك، تتجلى نقطة ضوء تعيد حيويتها بعد انطفاء، تسترجع مرسى الماضي الذي ربما توارى لأي سبب من الأسباب، وترى نفسك وكأنك تولد من جديد، والحياة ليست إلا ولادة مستمرة، وقد قال المسيح عليه السلام، إن لم تولدوا من جديد لن تدخلوا الجنة.
الحياة حبل مشدود بين لا نهايتين، وأنت هنا في الشرفة، تنظر إلى الشارع، تنظر إلى المشهد، فتشعر بأن الحياة لا تنتهي بالتقاعد عن العمل، الحياة تظل مزدهرة طالما لديك مصباح ولو صغير، يقودك إلى مناطق الدهشة والجمال في الحياة، وهي كثيرة، فنظرة إلى حركة الطير في السماء، تكفي لأن تمنحك إحساساً بجمال الطبيعة، وتأمل حركة الناس في الشارع يمدك بعمر جديد، ويمنحك شعوراً سخياً، يجعلك تكمن في أحضان طبيعة لا تكف عن تلقينك كيف تحب الحياة، وكيف تصير أنت في الحياة وردة برية تنتظر، نعم دائماً هي في حالة انتظار لفراشة جميلة، تتقدم نحوها وتحرك جناحين شفافين كما هي قطرات الماء في الجدول، فما بين الوردة والفراشة، علاقة وجودية، ولكل منهما الرغبة الجامحة في بناء عرش الكون من مشاعر الحب، الحب فقط، لا غيره، هو ذلك الترياق الذي يحفظ ود الإنسان مع الطبيعة، مع الطير، ومع كل الشركاء على الأرض.
نعم للتقاعد ميزة مهمة، قد تزيح عن كاهلك كل المساوئ التي يجلبها الفراغ، وهي أنك تستطيع تأمل الحياة من دون ضجيج، ومن قلق اليوم التالي، وهل سيكون المدير بمزاج رائق، أم أنه ضجر لأن حرمه المصون، ذكرته بموعد السفر المعتاد.
خارج التقاعد حتى مثل هذه العادة السنوية تستطيع التخلص منها، بعذر بسيط، هو أنك متقاعد، ولا يمكنك تحمل أعباء السفر.
من خلال الشرفة، تتناوب على مخيلتك أفكار وأسرار، خبأتها لزمن، وبعد حين وجدتها تطفو فوق سطح الذاكرة مثل الزبد.