خلال زياراتي المتعددة لإيطاليا ومدنها المختلفة ألمس حجم اعتزاز واعتداد كل منها بمطبخه ومأكولاته الشعبية التي انتقلت من أزقة نابولي وميلانو وروما إلى العالمية. كنت أعتقد أن ميلانو عاصمة للجمال والأناقة والموضة وحسب، فإذ بها تبهرني بالعديد من أنواع وأصناف الإسباجيتي والمعكرونة التي تقدمها مطاعمها الشعبية الصغيرة المتوارية في شوارعها الخلفية.
في مدينة فلورنسا -أو «فيرنزى» كما ينطقها أهلها- عاصمة إقليم توسكانا الشهير بمطبخه تتدفق مئات المجموعات السياحية من أميركا واليابان ليس فقط لمشاهدة رائعة مايكل أنجلو، وإنما للالتحاق بدورات سياحية قصيرة لتعلم كيفية إعداد بعض مأكولاتها الشهيرة.
ذات مرة، كنت في المركز التجاري لمدينة ليدن الهولندية، وتضم إحدى أعرق الجامعات ومركزاً للمخطوطات والوثائق التاريخية النادرة عن منطقتنا الخليجية، لاحظت في أحد شوارعها وجود «كافتيريا» تبيع الفلافل وعلى الطرف المقابل أخرى تعرض ذات البضاعة وكل ينسبها إلى موطنه الأصلي، كانت العاملة في الأولى من صربيا بينما كان في الثانية عربي، والمقبلون على الطبق الشهير لا يتوقفون كثيراً عند الخلاف حول أصل «الفلافل» التي خُصص لها يوم عالمي هو الثاني عشر من يونيو سنوياً.
البعض يقول إن الفلافل انتقلت من مصر لبلاد الشام، حيث كانت تعد لتحل محل اللحوم وقت الصيام عند الأقباط، بينما يرى آخرون العكس، وتقام في بعض الدول مهرجانات خاصة بها للاحتفال والاستمتاع بأشهى أنواعها. وعلى غرار خلاف «أبناء العم» حول أصلها كان هناك آخر مماثل بين «الإخوة الجيران» حول «الطاجين و«الكسكسي»، لذلك أصبحت العديد من الدول تحرص على تسجيل مأكولاتها الشعبية والوطنية لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي فيها.
وأدرجت المنظمة الدولية طبق «الكسكسي» ضمن قائمتها للتراث العالمي غير المادي، إثر تقديم ملف مشترك من جانب الأشقاء في الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا بعنوان «الكسكسي: المعارف والمهارات» لينتزعوا اعترافاً ثقافياً عالمياً بالطبق الشهير.
مأكولات لم تعد مجرد أطباق يتبارى أمهر الطهاة في إعدادها خلال المهرجانات والمواسم، أو يتلذذ بتناولها في البيوت أو المطاعم بل أصبحت موروثاً ومن صور الهوية الوطنية والغيرة عليها مثلما يجري في العديد من الدول التي تقاوم بقوة غزو الوجبات السريعة المسخ والمشوهة التي لا تمت بأية صلة لثقافة الطعام الأصيل لدى مختلف شعوب العالم.