استكمالاً لمقال الأمس، نعود إلى حديث الذات عن الذات، فالإنسان بما يختزنه من تاريخ امتد لملايين السنين، وما حفلت به هذه السنون من صراع من أجل البقاء، نرى أن البداية الحقيقية، كانت قبل اثنتي عشرة ألف سنة، عندما اكتشف الإنسان عصره الزراعي، فمن أجل الزرع، نبتت طفيلية غريزة الموت، فالإنسان الذي كان يعجز عن حماية محاصيله الزراعية، كان يشعر بعدمية الحياة، وعدائية الآخر له، الأمر الذي أيقظ في داخله غريزة الموت، واندفاعه الشديد تجاه هذه الغريزة، والتي رأى فيها نجاته من الإحساس بالضغينة.
فسيرة الذات اليائسة ليست حديثة العهد، بل هي ولدت مع ولادة الإنسان، وإلا لماذا يصرخ الطفل حديث الولادة؟ إنها صرخة احتجاج على فقدان الموطن الأول، ألا وهو أحشاء الأم، وعندما لا يعثر الطفل على الإجابة، فإنه ينكفئ، وينكص إلى مراحل جنينية مبكرة، فنرى هذا الطفل الصغير وقد اتشحت وجنتاه بركام العبوس، وتزاحمت في روحه نشارة خشب لمشاعر مكفهرة.
ومنذ بدء هذه المرحلة، يبدأ الإنسان يكدس مشاعر السلبية، ومنها تغزوه غريزة الموت، والتي تكون معدة مسبقاً، وتنتظر المحرض، والمحرضات، والدوافع كثيرة لبروز غريزة الموت، فمثلاً نرى التطرف في مختلف نواحي العالم، ومختلف العقائد، والأيديولوجيات الدينية السماوية، والوضعية على حد سواء، يتأبطها بشر عدائيون يستمرؤون الخراب، والدمار ويرون فيه عمار في داخلهم، وتعويضاً عن حالات النقص التي يعانونها لسبب من الأسباب.
فرويد دلنا على السبب، ولكن المجتمعات الإنسانية لا تريد الحقيقة، بل تبحث عن السراب، في صحراء عدم الوعي، الإنسانية تهرب من الحقيقة؛ لأن اللاوعي نفسه في جميع الحالات، يقوم بطمس الحقيقة، وإبراز الوهم، ليظل الإنسان، أفراد أو دول، يحومون في دوامة اللاإدرية، وهو الطريق المسدود الذي تنتهجه الإنسانية، وتعبر من أجله الحدود، وتحطم السدود، ولذلك لن تنتهي الحروب، ما دامت الحروب الداخلية لم تطفئ نيرانها.
فقط القليل من الوعي ينهي المأزق، ويخلص البشر من أزمة اللاعقل، وتستيقظ النفس البشرية على صباح تشرق فيه الشمس من دون غيوم اللاوعي، ومن دون أعنف غريزة عرفها الإنسان، وهي غريزة الموت.
هذه الغريزة هي سلاح الدمار الشامل الذي يتحكم في مصير الإنسانية، وفيما لو اعترف الإنسان أن طريقه للمجد لا يتحقق على جثث الآخرين، وأن مستقبله الزاهر، لا يضاء بسفك دماء الآخرين، بل على العكس فإن المستقبل مرهون بسلامة النفس البشرية من ضغينة الموت، ومن غريزة لا تشير إلا إلى القبور. والله المستعان.