في العيد، وفي صباحه الباكر، تنثال على الرأس صور وأحداث ومشاهد، ووجوه.
وعندما تشرق الشمس تتغير ملابس الأمس، وتستبدل بأخرى أكثر بياضاً، كما هي القلوب.
والابتسامات تنشر أعلاماً وعلامات بحجم الفرحة، تتأمل الوجوه، وجوه الكبار، فترى رسوماً لوجوه طفولة باكرة حلت رحالها، واستراحت عند مضارب الوعي، مستدعية أزمنة، ربما تلاشت أوقاتها، ولكن المآثر لها منحوتات في الوجدان، وكل يتذكر أيامه، وكل يستدعي أحلامه الطفولية، وكل يستدرج الذاكرة كي ترخي بظلالها على القلب، فتضيؤه بمشاهد ربما توارت خلف كدر الزمن، ولكنها لم تزل حية، نابضة، مثل موجة تتحرك في أحشاء البحر، فتلون سطحه برغوة الصابون، تنظف ما علق بالذهن من شوائب الزمن.
في مجلس العيد، تنظر إلى وجوه بعضهم، فتتحول الذاكرة إلى مراحل باهتة، ثم تتبين بعد ذلك، كيف تنقي الصورة نفسها، وتصبح المرآة صافية، نقية مثل جناح فراشة، مثل وردة برية، تغرورق عيناك بدمعة ساخنة، ولا تملك إلا أن تدعها تمر عبر الجفنين، وتبلل الرمش والقلب معاً، ثم تحاول إخفاءها، أو كبحها، ثم تلتفت ثانية إلى الوجه المخضب بسمات زمن ما، المخصب بأحداث ملأى بالفرح، فتبتسم، كما أنه يبادلك الابتسامة، فتمسك بيده، فيضم يدك، فتسمع صوت تنهيدة قادمة من مرحلة طفولية قديمة، فتأخذ أنت نفساً طويلاً، فيشخص بصرك، وتتسمر عيناك عند سقف أسمنتي مزخرف بديكور الجبس، والصبغ الذهبي، تشعر في تلك اللحظة أنك ليس ابن المكان، أي أنك شخص آخر، قادم من زمن ما، لا يعرفه غيرك، وهذا الكائن البشري الذي يمثل أمامك، وقد استغرق في الصمت، وصار يملس شاربين مثل بياض الثلج، ويفرك جفنيه، وكأنه يعصر زمنه، وكأنه، يدعك سجادة زمن ما.
مضى من الوقت أكثر من ساعة، مرت كأنما عجلة ثقيلة داست على طرف القلب، وكأنما ناب حاد نهش الكبد، وكأنما لحظة محاكمة للزمن، انتهت بخسارة فادحة، رغم لذة اللقاء، وحلاوة الابتسامة التي مرت بين الشفتين، ولكنك، عندما عدت إلى منزلك، شعرت أنك كسرت فنجان قهوة، فجرح يدك، شعرت أنك أشعلت شمعة، انطفأت بسرعة فائقة، ولم تزل تستعيد ما رأيته في تلك اللحظات، وقد مرت كأنها الريح حركت مواجع، وقلبت مكامن في العمق، ولا زلت تتخيل كيف تدفقت الصور، وكيف اندلق إبريق الشاي الساخن على فؤادك، حتى كدت تنسى أنك في يوم عيد.
فأحياناً الأشياء تختلط ببعضها، فلا يستطيع المرء التمييز بين ما يحزنه، وما يفرحه.