الجميلة تمد ساقيها على شاطئ البحر، وتسند ظهرها على الجبل، وتمشط جدائل السدر والنخل، وتتذكر الطيبين، ومن ذهبوا بعيداً باتجاه «الحديبة» وتذرف الدمع مدراراً، ورجلٌ ساهم الفكر يقف عند حافة الماء، ويراقب الموجة، ويقول كيف حال الزعانف، كيف الأهل والقوارب التي سجيت بعيداً، فلا راعٍ، ولا خليل.
الله.. إنها المرحلة التي ألقت عباءتها، وطوت الشراع، وجعلت من المجاديف أقلاماً جافة من دون حبر ولا سبر ولا خبر.
ويقول الرجل النبيل: «ذهب الذين أحبهم وبقيت وحدي» ذهب البحر بعيداً، توارى خلف الحجب، وبقيت الجميلة تردد أغنيات الأراجيح، وتهدف فساتين ذوات الخصور المرهفات، والعيون الحور.
الجميلة، في الصيف، وفي رحلة الشتاء، تبدو لها الأشياء بلا لون، باهتة، معتمة بعض الشيء ولا شيء يؤنس وحشتها بعد الرحيل العظيم، سوى صرير الجدران المتهالكة، وبعض أبواب وهنت ألواحها، ولم تبق غير الصور، ووجوه تلاشت خلف ملاءات الزمن الكالحة، ورائحة أجساد، «بالأمس كانت هنا، واليوم أفلت». الله.. هذه الشمس اليوم عملة معدنية تالفة، تشيع العيون بلون أشبه بغيمة شاردة، والجميلة وحدها تسترسل في العويل، عندما تبدو الشمس بلا معطف، ولا ملحف سوى ذيول الغيوم الهاربة من عرائها، ومن وحشة ما يعرشون.
وحدها الجميلة تتذكر كيف كان للعريش فضاء يصدح من خلاله فنانون غنوا للحب، يوم كان الحب إكسيراً، وكان ترياقاً لعشاق وهنت أجسادهم وهم حمالو الحطب، إلا من أفئدة كانت الصدى، والصوت لحنين الجميلة لمن عبروا، ومن ساروا، ومن لملموا تفاصيل أشيائهم الصغيرة، ومن قرؤوا سورة الفلق كلما داهمتهم صورة «أم الدويس» وناموا قريري العيون ولا قلق، ولا أرق، ولا حدق يتقصى الأفق، لغير ذات معرفة.
الجميلة اليوم تنام وبجوارها نخلة هزت الجذع ولكن بلا رطب، اليوم الجميلة تصحو وفي مرفقها سوار حفظته طول العمر، لأن في ثنياته بريق عينين ولون أهداب.
الجميلة اليوم بين القيل والقال، بوح مثل ماتوشوش الريح في أسماع الوجود، مثل ما يغني الطير للجمال في عيني امرأة مرت من طرف منزل، مثل ما تردد البحار لحن الخلود.
الجميلة هي في عمرها المديد تمد النشيد من أجل الحياة، من أجل الذين كتبوا قصائد العشق على خد غيمة، أو جيد نجمة.