بدأت قصتي مع توثيق مرويات أسرتي قبل عقودٍ من الزمن وفي الإجازات الدراسية، وتعجبني سوالفهم ورمستهم وطريقة سردهم للماضي، وأساليبهم في تقديم النصائح والحِكم التي رسخت فينا أخلاقيات عالية. فكرت في إحدى زياراتي الصيفية أن أسجل بعض جلساتهم، فأحضرتُ المسجل الذي يحمل شريط الكاسيت وشرحتُ لهم نيتي، موضحة أني سأستمع لسوالفهم عندما أشتاق إلى جلساتي معهم، فتكون سبيلي لتقليص المسافة وتخفيف معاناة الوحدة وعلاج الغربة والتغرب. سألتني خالتي مريم بنت عبيد، رحمها الله: «وهناك في أميركا منوه بيعرف رمستنا؟»، فقلت لها بكل ثقة: «أنا». أذكر أن إحدى الجلسات احتوت حديثاً شيقاً عن الرمضاء، وكيف كانوا يتعاملون مع «حموة القيظ» بليا نعول! من بينهن كانت ناعمة بنت حسن، رحمها الله، التي قالت: «لول كنا نمشي على سيفة البحر من أم سقيم في جميرا يالين سوق السمك في بر دبي ونتحلى ونرد على متلى ثرنا.. لا روماتيزم ولا غيره»، فردت عليها والدتي، رحمها الله: «وأغمي على هذيك السيفة.. البحر جنة مرمر والتراب جنة شكر». كنت أستمع لأحد هذه الأشرطة ودموعي لا تبحث عن محدار فقد وجدت سبيلها فحولت تلك القطرة الحائرة بين قلبي وأنفاسي إلى بحيرة تطلب الحركة والحياة.. فانهمرت. لم أكمل الاستماع فقد طوقتني هالة الجمال والإيجابية والحب. كانوا يصنعون من الماضي صوراً تتحدى الواقع حتى نطمع ونطمح في كل ما هو جميلٌ وأجمل من المتوقع. انتشلتني جملة قالتها إحداهن عند حديثها عن آمنة تلك السيدة الوقورة التي كانت تمسح وتيبر وتداوي بعض سكان الفريج، سمعت: «هيه.. عقب ما تمسحك تسير لين الحوي وتنفض ريولها في الرملة.. يابوك من منها ينبها يلقط من أعواق الأوادم»!
«إبرة في كومة قش» هذا كل ما كنت أريد سماعه، لقد تعرفت على جانبٍ عميق من فلسفة وفكر وسلوكيات أهلنا الأولين، وكيف كانوا يتعاملون مع الضغوطات النفسية والشحنات السالبة التي تمتصها أجسادهم من الطبيعة والبيئة والأجواء. تقول الدراسات المتقدمة وعلماء المختبرات الذين نقتنع بما يقولون بلا منازع بأن الإلكترونات، إحدى مكونات الأرض، وهي جزيئات من الذرة ذات شحنات سالبة بينما تُخَزّنُ أجسامنا شحنات موجبة تتراكم وتزداد نتيجة تعرضنا للضغوطات وتحديات الحياة اليومية. ولذا فإن الإنسان بحاجة ملحة ودائمة لأن يكون في اتصال مباشر مع الأرض حتى يحرر الشحنة الموجبة التي يحتجزها الجسم ليعود الإنسان إلى التوازن المعهود وحالته الطبيعية. عندما نلامس الأرض بأقدامٍ حافية تدخل شحنات الأرض، وتتغلغل في أجسادنا وتسمى هذه العملية بالتأريُض، وهو تفريغ وتوازن ذبذبات لا يحتاج إلى فلسفة أو تفكير.
للعارفين أقول، كانوا بكل بساطة علماء وحكماء وأصحاب معرفة وفي عام الاستدامة قررت رصد تلك المعارف تحقيقاً لـ«توطين المعرفة».