الحب حبك، السهم سهمك، والأيام عصف في حنايا المتيم. كلما عاينت بدرك، كلما أمعنت في عينيك، وجدتني طفلاً يشتاق إلى رحيقك، وتأخذه الأيام إلى تيه وفيض من سجايا أزمنة مرت من هنا، من نافلة القلب، من فروض صلاته، وهو الناسك في ربوعك، وفي محاريب أم كانت في صباي أيقونة، كانت في هواي أغنية، كانت في المساءات شجيرة تهز عناقيد مهجتها، فأظل أناغي ذاك الوجيب المخضب، وذاك الصبيب المهذب، أطل أنا المعني بالدموع المبللة بالحنين إلى طفل لم يزل في ريعان كهولته، لم يزل يرفع نشيد الطفولة، ولهان لحضن كأنه العش، وأنا الطير المؤدلج بالهوى، أنا النازل من بريق النجمة، من نبرة في عينيك، تهديني السلام، تمنحني الوئام، وكل ما لدي من زماني رجفة الفراق، حين تكونين أنت على فراش العجز ترتلين اللاوعي بأحاديث الزمان، وما مر من حكايات، لم تزل تخب خبيبها في صحراء قلبك، ولم أزل في وعيك ذاك الفتى الخارج من ثوبك، يتهجى أبجدية أحلام الصبا.
الله يا مريم، يا سر الكلمات في صدر المعنى، يا وحي سماؤك، التي طالما أرقتني، وحملتي ورطة أشواقي اللذيذة، وجعلت من الأيام كتاباً، فيه ما قاله الابن في إنجيله المقدس.
الله يا مريم، معيريض لا تبكي فراقاً، ولكن تنتحب وحشة، وجهامة ليل، تكونين أنت فيه الروح التي هيضها المرض العضال، فاشتاقت لرائحة الطفل، للثم شفتيه، وهديه، ووجنتيه، ولكن.. كيف اليم أن يستعيد حرقته، وأنت الآن لا سمع، ولا بصر، بل فؤاد معلق بين سماء طفولتي وأرض حنانك الموؤدة، والموؤدة سئلت عن غي، وطي عباءة الحياة، ولم يتبق من العمر سوى بعض ابتسامات بهت لونها، ولكنها تظل ترقص على الشفتين الذابلتين، تظلين أنت يا مريم الحكاية، في قلب رواية لم تنته فصولها بعد، ولم يتسن للراوي أن يقلب الصفحة بعد.
في صباح ما صحوت، فكنت تسندين ظهر الزمان على أريكة وتحدقين في اللا شيء، سعدت في تلك اللحظة وأنت ترشفين بقايا قهوة، وشيئاً من ريقك المر، شعرت أنك تنادينني فقمت في لهوجة، اقتربت من ملاءتك الدافئة، اقتربت مني الذي يسكن قلبك، شعرت أنني لم أزل طفلاً وأن هذا الذي يملس لحيته الفضية ليس إلا بعض إنسان، أو شيء من هذا القبيل، فرممت شفتي على كفك، قبلت، وقبلت، حتى ذاب جلد راحتك المتعب، حتى ذبت أنا، حتى ذهب كلانا إلى مدرسة الماضي وكانت مفتوحة على آخرها، وسمعت من بعض كلماتك، أنك ما زلت تتذكرين ألعابي البدائية، وتقولين دعك من هذا اللهو، وضع كتابك بيمينك، واقرأ، وكنت في تلك اللحظة في تحد مع عصفور حط فوق شجرة اللوز، فهل اصطاده، أم تصطادني الزلة، فأهوي على ظهري.
ولحظة وجدتني أنظر إلى عينيك، كانت عيناك تسبحان في بحر من الدموع، وكنت أغرق في دمي.
الله يا مريم، كم أنت في الزمان حكاية معلقة على لسان الطير، مكتوبة على ورق اللوز، وفي جوف بئر، كانت هي الماء والارتواء، هي الرحلة الصباحية ما بين معيريض والحديبة، هي الشقاء اليومي من أجل قطرة ماء تبلل به شفاه صغار، ما ناموا، بل سهروا يعلقون ساخرين على ورطة الوقوع الأليم.