إن كان للرقي عنوان فهو سويسرا، وإن كان لكل الأشياء أسرارها فهي في سويسرا، وإن كانت الأمور تصطبغ بطابعها فهي سويسرا لا غيرها. سويسرا لا تدع أحداً أو شيئاً أو أمراً إلا ولونته بجمالها، فهي البلد الوحيد الذي لا يمل المسافر منه، ويمتعض إن جاءته سفرة مفاجئة إليه، فيتلقاها كهدية سماوية، وإذا كان قريباً من مدن أوروبية كثيرة فلا يختار الذهاب إلا إليها، وكأن أحداً يحضه باتجاه الرقي، ونحو الفخامة، وحدها البلد الذي إن علم المسافر أنه سيتجه صوبه تظهر عليه ابتسامة مقتلعة من داخل النفس، فتنفرج أساريره، ويدبّ الانشراح فيه، يكفي المسافر له المبيت فيه ولو ليلة، ويكفي المستعجل المكوث فيه لساعات، هو بلد مهادن مساكن، ومفتوح على كل الجهات، وكل الاحتمالات، ومدنه وحدها من تجمع فضائل المدن، سويسرا هي البلد الذي مدنه مثل قراه، مثل ريفه، مثل أناسه، كل له خصوصية، وكلها تعطيك معاني للرقي، وقناعة النفس، وأتذكر زماناً، حين كان يقول الواحد: «أنا ذاهب إلى سويسرا»، يظهر حسد الكثير من الناس له بأنه غني، وقاصد الذهاب من أجل دفن فلوسه هناك، أو على الأقل تسمع الناس البسطاء يقولون: «هذا فنان وراق شغل سويسري، منو يروم له»! والكل كان يتمنى لو كان هو مكان ذلك المسافر إلى سويسرا التي لاسمها رنة نقد لا يصدأ.
لعل سويسرا هي الجهة الوحيدة في العالم التي يقصدها الناس وكلٌ في قلبه هواه، وينشد ليلاه، فالأغنياء يحاذون حدودها الفرنسية، حيث كل شيء مستساغ ومستطاع، ولا تجد ظلاً للفقراء، ولا المزاحمين هناك، باختصار لا شيء يمكن أن يسد الأفق أمامهم، والنخبة يعشقونها شتاء عند حدودها الألمانية، حيث لرائحة احتراق الحطب في المواقد، وطعم الكستناء على الجمر لذة مجنونة، ولهيب النار يتعاكس مع بياض الثلج الذي يعادل النوافذ الخشبية، وثمة حركة في الداخل لنادلات بملابسهن السوداء وقمصانهن البيضاء المتأنقة يعادلن الكؤوس وأطباق الجبنة والفواكه المجففة، وأطباق «الفاندو». لا شيء يمكن أن تسمعه في ذلك المكان الخشبي والثلجي غير موسيقى تسرقك، وغير رقصة وثنية يتناغم فيها الجسد الأنثوي مع النار الساكنة كأفعى نائمة، في حين العشاق والبوهيميون والفنانون والشعراء يقصدون حدودها الإيطالية، حيث لا حدود للأشياء، ولا شيء يحدّك، لك المبتغى والمشتهى والمنتهى، وهناك أناس يقصدونها لسويعات أثناء الدوام الرسمي للمصارف ذات الجدران الصامتة، والخزائن الرقمية المتجمدة، حيث للمرابين قفازات بيضاء مخملية، وخدود تلتمع من عطور ما بعد الحلاقة المواظبين عليها كل صباح، أناس موعدهم السنوي مع معارض ساعاتها الراقية، والتي لا تعرف التأخير، ولا تعرف معاصم الفقراء. وهناك أناس يتفتتون من الدلع والنعومة الأرستقراطية، مثل واحدة من تلك النساء المنعمات الناعمات تكون في عاصمة قريبة، وتشتهي أن تفطر على الخبز السويسري، ومربى التوت البرّي، وعجة البيض مع الأعشاب، وعصير البرتقال المنزوعة منه لسعة الحامض، وبعضهن تخطف رجلها سريعاً إلى موعدها في عيادة التجميل، من دون أن تخبر أحداً بذاك السر الدائم للشباب، بعضهن تستهويهن الشيكولاتة السويسرية فتتوقف لساعات بقدر ما تتزود طائرتهم بالوقود، لتتزود هي بعلب الهدايا، رجال يأتونها نهاراً ليناموا، ويسهروا ليلاً، إما على طاولة خضراء مخملية أو ليلة سرمدية يتمنون أن تدوم كدهر.. وغداً نكمل