مرت عشر سنوات يا أمي منذ أن غادرتني إلى رحمة الله وفسيح جناته. لكنني كلما استيقظت صباحاً وتجولت في أرجاء الحديقة التي تحبينها لم أجد سوى طيفك يراقبني ويضحك من شغفي الدائم بالزراعة. وتقولين لي مازحة بلهجتك الشعبية: «يا بنتي ما بقى ماعون ما زرعتي فيه». 
هكذا استيقظت ذاكرة القلب وبحثت عنك في غرفتك التي كانت تعبق برائحة ماء الورد وعطر العود والعنبر، فلم أجدك. وحين لمست الفراش على سريرك، وجدت ذرات غبار على مخدتك، فعرفت أنك لست هنا. وإلا كيف للغبار أن ينتشر على فراشك، وأنت التي كنت تضيقين بذرّة من الغبار إذا توهمت أنها علقت بثوبك أو شيلتك أو فراشك. فكيف سمحت لنا أن نغطيك بالتراب، من دون أن تصرخي غاضبة: «انفضوا الشيلة من الغبار»! آه.. كم اشتقت لك يا أمي وتمنيت أن تحبلي بي مرة أخرى في بطنك الخصب. وتهزيني على حضنك، وتغنّي لي أغنيتك الشعبية: «حبيتج يا بنيتي محبة الأهل والأغنى ومحبة الضنى ما دونها دون. حبيتج يا بنيتي محبة تدعي الملح شكر وتدعي عويدات الثمام قرون».
كانت محبتك لي كصواري السفن وذراعاك أشرعتي. كنت تهزينني على سرير صدرك، وتخيطي لي ثوب المهد وتضفرين شعري بحنان أصابعك. كنت تنثرين قصائدك في أرجاء البيت كل يوم، لكن لم يعد فيه إلا صرير الغياب! وعندما كبرتُ كنت تسندين رأسك المتعب بثقل السنين على قلبي. وأحصي عروق الفضة في مدائن شعرك الليلي. لعل حائراً ينازعه الموت، تلوح له عروق الفضة فينتفض في عروقه شوق الحياة، فحين كنت تلوحين في الحلم أو اليقظة تشق عنان الحياة صرخات الولادة. وحيث ينبثق وميض حضورك تنهار العتمة ويشرق الكون بالضياء. فانهضي يا أمي وانفضي التراب الذي علق بذيل ثوبك، فمساحة القبر ضيقة، وأنت كنت باتساع الأفق، وحضورك يدفق كالأنهار وثراء روحك كالمحيطات. فهيا غطيني بكُم ثوبك المطرز بالمحبة، المندى «بعود» التضحية و«عنبر» الحنان. رشّي ماء وردك على وجهي كي تستفيق في ذاكرتي أجراس الطفولة. خذي قامتي المتيبّسة وتضاريسي التي نحتتها مطارق السنين واعجنيها بحليب الأمومة ورقّة اللمس! 
آه من قدرة أصابعك التي كانت تبدع الخبز والقهوة والحنان. أعيدي تكويني: من الضياء كي أتحد بالماء والتراب. من المعرفة كي أحيط بما يحيط! فانهضي يا أمي وقبّليني فوحشة غيابك تفتك بي والحزن يفتت شراييني ودمعتي تغرقني كلما ناديتك ولا تجيبين!