حضارات سادت، وأخرى بادت، لماذا؟ لأنها فقدت السيطرة على أحلامها، بل إن أحلامها أصبحت كوابيس، عندما تشاطر الناس رغيف الخبز وأيديهم ملوثة بتراب الأنانية، وعقولهم مملوءة برماد الكراهية، وقلوبهم مزروعة بأشواك الجفاف العاطفي.
مجتمعات ارتفعت، ثم نزلت، وترك صهوات الخيل ترفس فرسانها، وذهبت بأحلامها إلى ما بعد الغيوم السوداء، وبقيت الدول مثل قطط مريضة، تموء من شدة الوهن، وترزح تحت وطأة الفقر، وهوان العازة.
بعضهم ظل طوال عقود يمد سبابته إلى اللا شيء، ويشير إلى الاستعمار بأنه السبب في إفقار الشعوب، لأنه نهب خيرات أرضها، ولم تزل هذه الأصابع ممدودة في الفراغ الوسيع، بينما وهم الاستعمار ولى واندثر، بل إن بعض الدول الاستعمارية، أصبحت في حاجة إلى من يعينها ويشد أزرها، لتحمي اقتصادها من الانهيار.
الاستعمار توارى، ثم تلاشى، ولكن وهمه بقي في الأذهان مثل وهم «إم الدويس» في عقول البسطاء، وهو مستمر يتغذى على الحيل البصرية، وينمو على أثر الأفاعي الدهنية التي طالما زحفت باتجاه العقول لتوهمها أنها تملك العذر لأن ما يحدث هو من آثار الاستعمار، ومخلفات بطشه وغطرسته.
ولكن هل هذه هي الحقيقة؟ بالطبع، فهناك أمثلة جلية أمامنا، فاليابان هزمت في الحرب العالمية الثانية وخضع إمبراطورها للمنتصر الغربي، وكذلك ألمانيا التي قسمت إلى شطرين، شرقي، وغربي، وصارت عهدة بين يدي المنتصرين ولكن ماذا حدث لهذين الشعبين الجبارين؟ إنهما لم يرقدا تحت ملاءة حمى الهزيمة، ولم يتذرعا بالهزيمة، ولم يتكآ على أريكة انتظار السماء كي تمطرهما ذهباً.
بل إن هناك عقولاً استفادت من الهزيمة، وتحركت، ونهضت، ونفضت عنها غبار الهزيمة، وسعت بثقة، وثبات إلى إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، وهو أنه لا بد للحياة أن تستمر. لا بد للعقل أن يعمل، وإلا يظل دبابة معطوبة، أثر ثقب في مقدمة فوهة مدفعها، لا بد وأن الشعوب تعيش وألا تنخدع بمذكرات العقل المهزوم، وتظل تنعي الماضي، فالماضي زمن، والزمن مثل البحر ولا يمكن أن يدخل الإنسان البحر مرتين، وهذه مقولة إغريقية قديمة، عرفها الإنسان، وعلى ضوئها حرك مشاعره باتجاه المستقبل، من دون الرجوع إلى إخفاقات الماضي.
فالذين أخطأوا في الدولتين في حربهما ضد الطرف الغربي المقابل، ذهبوا ولن يعودوا، وعلى القادمين من جهة الحاضر، أن يحركوا العربة باتجاه المستقبل، لأنه هو الأبقى، وهو الأجمل.