لعل من الأمور الممتعة والتي قد لا نعرفها أو لا نسعى إليها أو نتجنبها في أسفارنا المتعددة، مشاهدة الأمكنة البكر لمهد النشوء والحضارات، مواطن السكان الأصليين البدائيين، الذين ما زالوا يعيشون وقتهم الحاضر بمعطيات ومكتسبات عهودهم القديمة في عصرنا، يتوارثون أشياء الأسلاف ويورثونها، هم متداخلون في كل شيء، حتى إنهم يتشابهون مثل الإخوة، وبالكاد تستطيع أن تفرّق بينهم للوهلة الأولى، مثل هؤلاء موجودون في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، وحتى في أميركا وأستراليا، حيث يعيشون في الغابات أو الكهوف، أو ينزوون في قرية بعيدة نائية لا تصل إليها المواصلات، ولا يعرفون الاتصالات، بعض من هؤلاء السكان الأصليين أبيدوا عبر التاريخ على أيدي المستعمر الجديد، ومن بقي منهم اليوم مدجنون، لكنهم ما زالوا يحتفظون بموروثاتهم وتقاليدهم وعاداتهم التي يعرضونها على السياح من بقاع العالم، بعدما ضاعت اللغة، وتناثر ريش قبعاتهم أو سلبوا منهم أسلحتهم البدائية القديمة، مثلما هو الحاصل مع الهنود الحُمر في أميركا، وسكان أستراليا القدماء «الأبورجيين»، وسكان الإسكيمو، وطوائف في الصين وآسيا البعيدة.
وخلال أسفاري كنت أزور مثل هؤلاء السكان، وأتعرف على أماكنهم البكر والمشاعة، وأتمتع بمعرفة تفاصيل يومهم، وطريقة أكلهم ونوعية شربهم، وألعابهم، وعاداتهم الاجتماعية، وطبيعة سحنتهم، وكيف ينظرون للآخر الغريب، من تلك الزيارات كانت واحدة لغابات إندونيسيا، حيث يقبع بعض من السكان الأصليين في أدغالها، قطعت للوصول لهم خمس ساعات في السيارة، ومشي أربعة كيلو مترات وسط الغابات، وعبور جسور من الخيزران والأخشاب المعلقة، لكن كل ذلك هان حين وصلت لبقية من سكان إندونيسيا الأصليين «كِينكس» أو «بادوي»، واللفظة من العربية «بدو» في منطقة «بانتن» على ارتفاع ستمائة متر، يبلغون فقط 11 ألف نسمة، حفاة يأتزرون بإزار وقميص وربطة على الرأس تشبه المصَرّ أو «الحمدانية» عندنا، ويتسلحون بسكاكين وأدوات حديدية أقرب للخناجر والسيوف، يعيشون في 62 قرية متناثرة، في بيوت مصنوعة من الخيزران، يعملون في الفلاحة، منعزلون، وينقسمون لقسمين «كِينكس الداخل، والخارج» حيث تفصل بينهم حدود، فالذين اختاروا الخارج أو الخروج من الغابة وهؤلاء يمثلون أقلية، يعيشون في ثلاث قرى، ويرتدون الأبيض، أما «كِينكس» الداخل فيسكنون داخل الغابة في 59 قرية، ويرتدون الأسود، ولكل عائلة بيت خاص يسمى بيت الرز، وهو منعزل، وفي أعلى الجبل يحفظون فيه محصول الرز، ويكون بعيداً ومؤمناً في حال الحريق أو أي كارثة طبيعية، لا يعرفون الكهرباء ولا التعليم ولا الطبابة، يعتقدون بأرواح أسلافهم، هم بدائيون، لكنهم مسالمون، ما لم يغضبهم أحد، تماماً مثل من سكن الغاب من حيوان أو إنسان منذ أبد الدهر!
كذلك من بين تلك الأماكن البكر الجميلة التي حرصت على زيارتها، والتي تعيش طقساً غرائبياً يوم السبت، قرية الصيادين «ماركن» في هولندا، والتي سيدهشك أن كل بيوتاتها مغلقة على نفسها، وسكانها قابعون فيها، لا يخرجون منها، أبوابها ونوافذها مغلقة، وكنيستها صامتة، ولا أحد يمشي فيها غير السواح يتفرجون على بعضهم بعضاً، ولا يمكنهم أن يقرعوا باباً أو يتلصصوا من نافذة، في تلك القرية التي تصمت ويصمت أهلها في يوم سبتهم، فلا أهل الداخل مهتمون بما قد يفعل أهل الخارج، ولا أهل الخارج دارون بما يفعل أهل الداخل.. وغداً نكمل.