مرة.. سُئلت المستشارة الألمانية السابقة «ميركل» لماذا ألمانيا جل ميزانيتها تذهب إلى التعليم والثقافة والفنون وشتى المعارف الإنسانية، وأن رواتب المعلمين والمفكرين والمبدعين عالية عن بقية المهن الأخرى في ألمانيا؟ فقالت: ببساطة.. لأن تكاليف الجهل عالية جداً!
في الدول النامية والتي قاربت تنميتها على السبعين عاماً من الاستهلاك اللغوي، والأناشيد الحماسية، والوعود التنموية، وقد تصل للقرن قريباً من السير بخطوات للوراء أو أقلها تراوح في خطط التنمية غير الواعية، والكاذبة، مصرّة أن تبخل على العلم، وتصرف بسخاء على الجهل، فراتب المعلم في تلك البلدان يعادل ربع راتب هَتّيف الحزب الذي يكتفي بهتاف واحد في الشهر أو المصفق في الخطابات الرسمية، والذي يزرع في وسط الجمهور ليقود عقلية القطيع في التصفيق، حيث تأتي هنا مهمة قائد أوركسترا التصفيق بين الحشود، فيطرق تلك الصفقة التي تشبه صفقة البحّارة القدامى فيلهب الصالة، ويتبعه الحضور الكريم، ومن يجسر أن لا يصفق حينها؟ لأن هناك رقيباً راتبه أكثر من راتب المبدع بأضعاف مضاعفة، وهكذا تراهم ينقصون من ميزانية العلم، لصرفها على الجهل، ويبخسون العلماء والمفكرين والمبدعين، ويجودون على  الوشاة والدجالين، رغم أن العلم تكلفته قليلة وفوائده جمة، والجهل تكاليفه عالية، وخسائره مدمرة، والعرب كانت تقول حين كان للعرب تلك العزة والريادة: العلم تضرب له أكباد الإبل أو آباطها، ويقصدون في طلبه ولو في الصين، وهو فرض من المهد إلى اللحد، وكانوا يزنون ثمن الكتاب ذهباً لقاء تأليفه أو ترجمته.
تعالوا نحصي ثمن الجهل وعواقبه في تلك البلدان خلال نصف قرن فقط، نتيجة تولي غير الواعي ولا المسؤول ومن يتبع أجندة سياسية أو مصالح ذاتية نفعية في المواقع والمناصب، وتراجع «الانتليجنسيا» أو النخب المثقفة في المشاركة الفعلية في سيرورة المجتمعات، وتقدم الأشخاص المؤدلجين والتيارات الإسلاموية والنظم الثيوقراطية، وسيطرتهم على أجهزة بث الوعي مثل التربية والتعليم والمعارف والإعلام، وتمكين الصف الثاني منهم في مسك مفاصل الحياة اليومية والدورة الاقتصادية، وبعد ثلاثة عقود ظهر في تلك البلدان الإرهاب، والنعرات الدينية والطائفية، وتراجع الولاء والانتماء للوطن، وحلّ محله الولاء لأمير البيعة، وللمرشد، ولقائد الجماعة أو المرجعية، ظهر المخونون لأي مشروع وطني نهضوي، وظهر المصنفون لأي مثقف يدعو للتفكير بدلاً من التكفير، وظهر المتباكون على المشاريع القومية، والفاسدون الآكلون المال العام، وظهر المتلونون، نحن معك في حضورك، ضدك في غيابك، وظهر «الكفاحيون» الذين ينادون بتحرير الأرض من عواصم أوروبا، ولياليها الساهرة، ويقدمون أبناء الشعب فدية لأبنائهم الدارسين في الجامعات الغربية، وهم أصحاب نظرية «الفدائي في الميدان أو المخيم أو الداخل، والقائد في فيلا عامرة أو شقة واسعة أو في مسكن محصن في الخارج»!
تلك المعادلة، تساوي معادلة البخل على إزاحة الجهل!