مشرقة هي متألقة، متأنقة بثوبها الفضفاض، شاهقة، مترفة بعطر شالها الأسود الأنيق، رونقها وهي على سرير الكهولة كأنها وردة على صفحة الماء، في نبسها بوح الصبا الهارب من بين أصابعها كأنه الماء الذي غرفته من بئر في (الحديبة) هناك حيث دارت الحكايات.
سخية في ابتسامة الصباح وهي تلهج بنعيم الزمن المتواري بين ضلوعها، وكأنه النجمة وراء غيمة طافت الصحاري بحثاً عن رمال الصحراء، وعن غافة سردها العطش، ولهذه الحكاية السر، والسيرة، وقوانين الطبيعة، وحقيقة المرأة عندما كانت في البيت القديم تمشط التراب، وتفلي حبات الرمل، متسائلة عن سبب الحنين، ونبضات تحرك مكامن الأرض التي مشت عليها أقدام حافية، تحرق الرمل، بقطرات العرق الناصحة من قدمين، رعاهما الزمن حتى من فردة حذاء، أو نعال ذي حزامين نافرين على مشط القدمين.
مشرقة هذه المرأة وهي تلهج بلغة ربما تكون غامضة، مبهمة، ولكن في ثناياها تكمن أحلاماً، ويستقر بين كلماتها وهج الحب القديم، لقصص، وروايات، وقصائد غير مكتملة، مشرقة هذه المرأة لأنها لم تزل في الحياة مثل سنام يحمل على عاتقة شؤون، وشجون الذاهبين بعيداً في الصحراء تطلعاً إلى غايات القلوب المفجوعة بشح الوديان، وقتر العيون، عيون الماء، وعيون الأحياء، مشرقة هذه المرأة وهي ترفع النشيد عالياً، والدمعة الساخنة تغسل المحيا، فيه الأخاديد خطوات على رمل الفاقة، وجه يعكس صورة الماء الغامق، عند ساقية، مرت من هنا، من هذه الأصابع، والتي باتت مثل سنابل العشب الجاف، وباتت العيون مثل آبار جف معينها.
مشرقة هذه المرأة، وهي ترنو إلى العالم ولا ترى غير أشباح وتواروا خلف مساحيق، ومعاجين ترتق قماشة الوجوه المتعجرفة، وترقع خيوط الزمن الرمادي بخيوط من ألوان بدت مثل خربشة أطفال على ورق الرسم العشوائية.
مشرقة هذه المرأة، مثل موجة غافية على سطح بحر مسجور، والعالم من حولها مخمور بسكرة آخر كأس لمشاهد مشوهة، وعناوين لمحلات كبرى في هذا المبنى، أو ذاك، وكل الأشياء في هذا الزمن، تبدو لها ليس إلا رسوماً متحركة، لا نفع فيها، سوى التوقف عند واجهات تجارية مهجورة، بعد كساد، وفساد، في الضمير البشري.
مشرقة هذه المرأة، كالمرايا التي كانت تعكس صورتها وهي رافلة بينوع الشباب السخي.
مشرقة وكأنها خسرت كل العمر، إلا جمال الروح، وهي تغني للأحفاد، وتمرر الأصابع المرتجفة على شعيرات رؤوسهم، وتقبل وجناتهم بشفتين ذابلتين وكأنهما وردتين من زمن عاد وثمود.
أنظر إليها، وفي قلبي تهتز أغصان اللوعة، أتذكر وردتها الزاهية، أتذكر ابتسامتها الأنيقة، أتذكر أغنياتها في الليل البهيم، وهي تنشد لصغيرها كي ينام، ولا تنام هي بل توقظ فيه حب الحياة، وزقزقة العصافير على شفتيها، كأنها النقش على المعابد الأثرية، وكأنها حنين النساك، والكهنة إلى وحدة الوجود.