حين تتناول معطفك الشتوي الذي استودعته خزانة الملابس طيلة أربعة أشهر، وتهمُّ بارتدائه، وتدخل يديك في جيبيه الجانبيين كعادة يفعلها أكثر الناس، تلقف يدك اليمنى ربطة جنيهات إسترلينية منسية، فتفرح، وكأن أحداً أهداك إياها أو «تعايدت من مخباك»، تحاول أن تتذكر تلك الليلة وأحداثها وفي أي مدينة كنت، لكن الفرح لحظتها ينسيك تلك الأشياء، هي من الأفراح الصغيرة التي تفاجئ النفس، فتسعد ساعتها مع ابتسامة تلقائية، هكذا أنا تفعل فيّ تلك القراطيس والصحائف والطروس المنسية المتربة هنا أو هناك، في ثنايا الملابس المطوية كعادة ملازمة لي، في أدراج غرف النوم أو في صناديق السيارات، بعضها مضت عليه السنون، وأنا لا أتذكره قطعاً، ولا أدري عنه، لكن البحث والتنقيب يجلب لي ذلك الفرح الطارئ أو يستدعي شيئاً من الحنين أو يقرع ذاكرتي، ويدلّني على شخوص وأماكن ولحظات كانت مسافرة مع الوقت، وأحضرتها تلك القصاصة الورقية.
لدي أوراق من الصفوف الابتدائية، وبيني وبينها أربعون سنة مما تعدون، وأزيد، أوراق الأسفار في المدن والمقاهي والمطاعم حاضرة بكل تفاصيلها وأسمائها وعناوينها، هوايتي تلك الرزم الصغيرة من الوريقات الفندقية التي تستقر على «كوميدينو» الغرفة الفندقية مع قلم رخيص لكنه جميل، تلك الوريقات التي تحمل أسماء الفنادق هي محبوبة القلب، وأفضل الأشياء التي أدون عليها الأفكار والمقالات ومشاريع القصص ومشاهد الأفلام، أكره ما عندي الأوراق المخططة مثل دفتر تلميذ في نهاية الصفوف الابتدائية، ومشكوك كثيراً في نجابته، وهناك دفاتر تغيضني، وتعاند قلمي، تلك المقسمة إلى مربعات صغيرة، لا تعرف الجدوى منها، ليست مثل الصفحات البيضاء أو التي بلون التراب أو التي تشبه الورق المدور، وكان محبوباً عند الكثير من الصحفيين والكتّاب، يسميها إخواننا المصريون «دشت» وهو بقايا ورق المطابع المهمل والمرمي والزائد.
لكن وكعادة، لا أكتفي بورقي، بل أتعدى وأعتدي على ورق كثير من الأصدقاء وخاصة الكتّاب والرسامين والفنانين والمشهورين، وأثناء جلسات المنادمة والمسرة والضحكات، فيبدأ رسام بتخطيط «اسكتش» ويبقيه على الطاولة، فتتحرك أصابعي من دون إرادة، وتستولي على تلك الورقة، لدي قصائد لم تكتمل لشعراء، لوحات، وتواقيع لمشاهير السياسة والفكر والفن والإعلام، هناك أوراق جماعية نشترك فيها نحن شلة السفر، وتحمل كلماتنا وتواقيعنا وابتسامات قلم «روج أحمر»، لا تفوت عليّ، فأنا الحافظ لكل ما يبعثره الأصدقاء وخلان السفر، ندماء الوقت والريح أو ينسونه أو يخلفونه وراءهم في سرعة انصرافهم أو تثاقل خطواتهم.
من الأشياء التي ما زلت أحتفظ بها بدافع الفضول ومحاولة فك الطلاسم، تلك الوريقات المكتوبة بماء الورد والزعفران بخط مطوع الحي أو درويش مر مصادفة يتعكز على الحمد والبسملة، وكانت تعلق في طبلة من الفضة حول أعناقنا كصغار، والبعض سحبها مع تقدم عمره، فنقل تلك الطبلة ولفها على زنده وقاية من العين والحسد، تلك الورقة الطويلة والملفوفة على خيط، وفيها تلك الكلمات الطلسمية والمعادلات الحسابية، وأدعية دفع السحر وطرد الجن، وعبارات عصيّة على الفهم اللغوي، بالمقابل لدي قصاصات ورق من منجمين، لم يكتبها أحد ولا تشبه خط يدي، وكتبت كأجوبة لأسئلة كتبتها بخط يدي للمنجم، وأجاب عليها في نفس الورقة التي كنت أحتفظ بها في يدي المقفلة، دون أن تفلت من بين أصابعي، وهناك شهود عيان، وحين طلبت من المنجم أن يريني عينة من خطه، وجدتها تختلف عن خط الورقة، والخط بالتأكيد مخالف لخطي، فقال إنه خط القرين، المهم قبضت على تلك الورقة بكل قوة، خوف أن تنسل بفعل السحر والخداع البصري وغيرها من الأمور التهويمية، وجلبتها معي من لندن إلى أبوظبي، ومن حين لحين أفرد تلك الورقة وأطمئن أنها في مكانها، وأنها لم تمحها السنون، ولا الأفعال السحرية الغيبية.