هي واحدة من السهرات الممتعة مع مدعي الصداقة السريعة، ومدعي العوز في أول ساعة معرفة إلكترونية، كانت ليلة حافلة بالدردشات، والرسائل المتبادلة مع أحد النصابين من غينيا أو غانا، وكالعادة ينتحل صورة امرأة فاتنة مع اسم جميل من أسماء طيور ملائكة الرحمة، وهو مبعث شك أولي، لأن رنين صوت الاسم لا يركب مع تلك الصورة المتخيلة، والقادمة من أدغال أفريقيا، وحين تلمح إلى ذلك، يقول لك على لسان أنثى: إن أصولها بريطانية، وإنها تعمل في التجارة في مدينة قريبة من مدينتك التي تسأل عنها في أوائل الأسئلة، وحتى قبل السؤال عن اسمك، وغالباً ما تكون دبي، وتختار محل ماركة عالمية، مكاتبها في كل أرجاء المعمورة، وأنها تبيع ملابس عالمية عن طريق التجارة الإلكترونية، بعدها ترسل لك صورة أنثى فيها كثير من الإغراء المحترم، لتغرس ثقتها فيك، لأنك رجل «جنتلمان ورومانسي» على حد قولها، وإن لمست من مهنتك المال والأعمال، تشط وتطرح نفسها على أنها وسيطة عملات مشفرة، وأنها ممكن أن تربحك ما فوق الثلاثة آلاف دولار وأنت جالس «تشاتي» معها، طبعاً دون ذلك مشطة ووجع رأس، وتخرج خاوي الوفاض، ولا تمسك إلا قبض الريح، وإن قلت لها إنك رجل تحب السفر طمّعتك برحلة قريبة في «الكريسمس» إلى مدينة رومانسية، وإن قلت لها إنك تحب المطاعم، وتجربة أكلات الشعوب، قالت لك فوراً: ليتك معي، كنا ذهبنا إلى مطعم عمي في كولون في هونج كونج، فتستغرب من عمها الساكن بعيداً، فتطرح شيئاً من الثقة المبنية على معلومة تاريخية، بأن عمها بريطاني استقر في هونج كونج منذ الاستعمار البريطاني، فتكاد أن تصدق «مليخها»، فترسل لك صورة أكل صيني شهي من أكلات «الكاتولوجات»، وصورة أخرى لها على خلفية بحر، يمكن أن تكون في أي مكان، عدا أن تكون في هونج كونج التي تعرفها وتعرف بحرها الزفر الصالح للصيد لا السباحة.
المهم أن ذلك النصّاب المتخفي في صورة أنثى، والذي جعلته يستهلك وقتك ذاك المساء - طبعاً بتقولون في خاطركم الآن: اسميك عندك بارض، وعندك فاقة، فأقول: إنه الفضول وحده، وحب صيد القصص، وجلب شيء يمكن أن يسرق منكم ضحكة أو يجعلكم تتأملون.. كم هي مكلفة نفسياً ومادياً كتابة عمود يومي يعدكم بأن يكون مختلفاً على الدوام! المهم.. بعد تلك الدردشة، دخلنا مرحلة الجد، فيبدأ «يطاعمك» من تلك الصور، وأنت «تطاعمه» من معسول الكلام الذي يمكن أن يتحول إلى أرقام في أي لحظة ممكنة، مثل: كم تحتاج ولا تتردد؟ ولأنها بالمصطلح الإنجليزي لها تأثير عميق، تقع في نفسه موضع القبول، وترتخي براطمه، فيقوم على الفور ويطرّش لك حرمة بـ «ساري هندي»، فتلومه على عدم معرفته المبكرة، وإلا ما جعلته في هذه الحالة التي لا دخل له فيها، خاصة وأنه بعيد عن أهله ومعارفه، فتقترح عليه كاذباً بعد رؤية «الساري الهندي»، مساعدة من نوع صاروخ قاصف الجبهة: «ما دام أنك في غانا، لدي هناك صديق باكستاني متنفذ، ويمكن أن يهب لمساعدتك، وتقديم المال اللازم لك، لتفك به كربتك، وما إن سمع كلمة باكستاني حتى جفل، وقال: أنا لا أريد أن يراني أحد، لأنني من عائلة محافظة، ولها اسمها ووضعها الاجتماعي، الرجاء إرسال المبلغ باسم مدير الفندق، وفيما يلي رقمه واسمه، لأنني ممنوعة من الخروج من الفندق دون أن أسدد حساباتي.
وعدتها وودعتها «أم الساري» التي خافت من الصديق الباكستاني، بأنني سأذهب منذ الصباح إلى الصراف لإرسال المبلغ الذي في حدود ألف دولار، فاقترحت عليّ اسمي صرافين مشهورين في الإمارات، وقبل أن أذهب في الصباح الباكر، وجدت رسائل صباحية فيها ورود وكلمات ليست كالكلمات، وصور رومانسية ساذجة، ذهبت بنفسي للصرافة لكي أحول لها المبلغ، وكادت الأمور أن تضبط، ويتم التحويل بلا تعقيدات، فتذكرت مرة أنني كنت أريد أن أحول مبلغاً لمهرجان لندن السينمائي الدولي، وهي مؤسسة ذات صفة اعتبارية ومعروفة وتدفع الضرائب المترتبة عليها، ولا ينقصها شيء، ولا لها في النصب والاحتيال، وحساباتها معروفة للمصرف المركزي البريطاني، ولم أستطع التحويل إلا بعد أمور معقدة وأوراق وأختام وتعهدات، يا الله تعالوا فهمونا، واللي في غينيا أو غانا كاد أن يصل له التحويل بلا صورة هوية، ولا أسباب التحويل، لأن الصراف تكفل بالتعبئة كأمر روتيني؛ «مصروفات عائلية»!