هي ذكريات سفر مع أطفالي في أطوار أعمارهم المختلفة في البلدان المختلفة بحقائبهم الصغيرة المسافرة، غير أن السفر معهم بقدر ما هو ممتع لوقت محدد، بقدر ما هو من المسائل الشاقة والمتعبة، وتتطلب جلد تمساح، ومزاج فرس النهر، يمكن لسؤال أن يجعلك تقف مندهشاً مكتشفاً ذكاء الجيل الجديد، وكيف تخطونا نحن الذين كنّا نعد أنفسنا رجالاً منذ سن العاشرة، فقط لأننا كنا نساعد أهلنا في «يداد النخل وجناز السح، ونحفظ جزء عم»، قد يضحكك موقف عفوي من تصرفاتهم الطفولية، قد تكون في ذروة غضبك، وحلفك بأغلظ الإيمان أن هذه آخر رحلة ترافقهم فيها، فتُذبلّ أروى تلك الصبية الساكنة في تجويف الصدر بعينيها، كعصفور حب بريء، فتسحبك لصفها فجأة، وكأن أحداً أراق دلو ماء بارد عليك في حرقة عطش الصيف، فتتنازل بسرعة عن مواقفك الصارمة، وترضي بوضعية تثبيت الكتفين قانونياً.
الأيام معهم ممتعة، وهم يكتشفون المدن والأماكن، ومسرات اليوم، ويضفون عليها من روحهم ومرحهم، لكنهم في الحقيقة يريدون أباً له طحال حصان، ويتحمل مثل جمل المحامل، ويتذكر بصدق كم تتعب هي الأم، وكم تصبر، وكم تتحمل، وكم تعمل أشياءها بحب لهم، لذا على الآباء أن لا يزعلوا إذا ما عبّر الأطفال عن حبهم، ووجهوه نحو الأم مباشرة، فذلك ما يفرحها في النهاية، وينسيها كل المكابدة، وجرب حين تغيب الأم عن البيت لأيام، تلقاهم في لقياها صفاً عسكرياً واحداً عند الباب، وهي إذا ما دخلت كان سؤالها الأول لك مثل صفعة، كيف هم أولادي؟ طبعاً هم لا يتذكرون الأب إن غاب وحضر، وهي سؤالها عن الزوج من آخر الأوليات!
المهم.. يبدأ نهار السفر مع الصحو المبكر للتوأمين منصور والحور، بعد أن تكون الحور قد تركت سريرها، وجاءت تتختل نصف الليل لتزاحم الأب في سريره، وتدفعه بضربات غير منتظمة، لتجعله ينام على شقه اليمين على حد السرير، وقد تنام هي بالعرض، وتبات ترفس برجلها في خاصرة الأب اللينة، ولا تنسى الدمى المفضلة، والمتعلقة بها، فتضع كل واحدة على مخدة، ليتوسد الأب ساعده الأيمن حتى يتنمل. منصور يسطو على هاتف الأم، ويظل ينتقي من الألعاب المخيفة لوجوه بلاستيكية وحديدية، وأشباح مطاطية تتقافز، يصحو الصباح يحلم بها، وإن ترك غرفته، يمكن أن يتمدد على الكنبة أو يسحب فراش أمه، لتنهض تتوجع من ضلوعها الهشة بسبب برودة المكيف أو من لكمات بقي يوجهها لها متخيلاً واحدة من تلك الألعاب الإلكترونية التي يحبها، ويضحك منها، منصور يحب البحر، الحور تحب البحر وظل الشجر، منصور أكله قليل وخفيف وينهض باكراً، ويحاول أن يظهر شخصيته من الآن على أختيه، الحور صبرها قليل على الأكل، وإذا ما خيرتها بين وجبتين، وسكتت طويلاً، فمعناه أنها تريد الأكلتين معاً، وهي عادة ما تحب أن تحط رأسها و«تهيعّ» القائلة، مثل عجائز العين، منصور يبقى يتقافز طوال النهار، في السيارة، في الشارع، على الشاطئ، الحور أكثر اتزاناً خاصة إذا ما أخرجت العقصين، وتدليا على الجنبين، وتزينت بلباس الصيف الفضفاض.
طبعاً أنا لم أقدر أن أشاهد التلفزيون منذ شهرين لأنه كله رسوم متحركة منذ الصباح، ولَم أنم بعمق، ولَم أكمل كتاباً، ومجبر على أكل الوجبات السريعة مرتين في الأسبوع، ومرافقتهم في مدن الألعاب لساعات كل ثلاثة أيام.. مهنة الأب تبدو شاقة، خاصة في السفر.. وغداً نكمل تفاصيل مضحكة من حكايات الحقائب الصغيرة المسافرة، لأنه بصراحة يكذب من يقول: إنه لا يحب الأطفال.