في ظل الحقائب الصغيرة المسافرة، والتي يكذب من يقول إنه لا يحب أصحابها من الأطفال، تزداد تلك الحقائب في كل مدينة حقيبة جديدة، والأسباب حمى الشراء، وكأن سهيلة في بقعة منقطعة، وكأن أولادها لاجئون على الحدود الألبانية، طبعاً من سيعتل كل هذه الحقائب؟ ومن سيحمل على ظهره كل هذه الأكداس؟ الأم عذرها أنها تشقى كل يوم ملبية طلبات الأولاد، والشغّالة ليتها تستطيع حمل نفسها، لم يبق إلا ذاك الأب الذي يدفع، وهو الذي سيحمل، وهو الذي سينزل، وهو الذي سيبقى حارساً لتلك الحقائب المتكاثرة والمتناسخة، وهو من سيتكفل بدفع وزنها الزائد، كل تلك الحقائب في جهة، وحقيبة «الحور» التي تسكّن فيها دماها المفضلة، والتي «تشالي» بها من مكان إلى مكان، وتركبها معها في قطار أو سيارة أو طيارة، فتزيدك أنت أيها الأب زحمة، وتعرقاً، وتصبح عتّالاً للحور وتلك الحقيبة، لأن ضياعها معناه أن الصبية ستفحم من الصياح، وتقلب عليك الرحلة خاصة وهي «ملكة الدراما» في الأشياء التي تخصها، والتي تعرفها بأسمائها.
أروى البنت الكبرى كثرت أسئلتها الواقعية، مع بداية مرحلة النضج، وكثرت معرفتها بأضداد الحياة، لِمَ هذا الرجل فقير؟ وما دام هو فقير كيف يحمل مظلة في يده؟ أو لِمَ هذه المرأة الفقيرة تعيش في الشارع، ولديها أولاد كثر؟ لِمَ هذا ليس عنده أموال مثل أبي؟ هنا.. فقط تتسع عينا سهيلة التي تخاف من العين، وتقول جملتها المعتادة ما يحسد المال إلا أصحابه، وتتفتف عن يمينها ويسارها، مثلما كانت أروى تعتقد وهي صغيرة أن كل بلد تزوره عندهم الشيخ زايد، أسئلة أروى «الوجودية» تربك الأم، خاصة إذا ما قاربت تلك الأسئلة السماء، تظل تستغفر، وتدعو لها، وتخاف أن تجيبها عليها، تماماً مثلما تخاف من أجوبتي، باعتبارها هي «راعية دين»، وأنا «لكم عليّ شوي.. راعي داعسج، وراعي كتب وفلسفة، ولو أني ختمت القرآن صغيراً»!
منصور بعكس أخواته، قليل الأسئلة، ويميل للصمت، وله لحظات تأمل بعد الاستيقاظ، وأثناء التجوال بالسيارة أو ركوب باخرة، وهي ميزة أحبها فيه، لأنه يشبهني في هذا، وحدها الأم تظل قلقة من هذه العادة، ودائماً ما تردد: شو فيه ولدي هالشكل؟ وحين أجيبها أنه ورثها مني، تصرخ لا إن شاء الله ما يطلع مثلك، لأن زوجته بتتعب معه وايد، فأضحك منها وعليها، ومن قلقها المبكر على زوجة المستقبل، ومن أمنيتها، ودعواتها أن يصبح ابنها شيخ دين، وإمام جامع كجدها لأمها الذي هو قدوتها في الحياة، فقد حاز نعيم الدنيا، وثواب الآخرة! فأضحك ثانية: كيف شيخ دين؟ وهو من صغره يصيح يريد «آيفون، وآيباد»، ويتحدث الإنجليزية، وكثيراً ما تكون صلواته ناشفة بدون وضوء، ويختل إذا ما شاف مضيفات الطائرة، فتستغفر، وتهرب مني، ومن حديثي، وخوفها أن يلتصق ذلك بابنها الغالي.
في السفر تتفتق مواهب الأطفال، وتبنى شخصياتهم، غير أن بعض الأهالي يظلون مثل المدرسين التقليديين، لا تفعل هذا، ولا تخرج من هنا، ولا تلعب بذاك، ووصايا كثيرة، وربما كبيرة تفوق وعيهم وأعمارهم، وتربك سير حياتهم الطبيعية، وبعضهم لا يحترم رغبات ومتطلبات شخصية كل واحد منهم، يريدونهم أن يكونوا سواسية وأسوياء، قناعتي أن الإنسان يبدأ يبني شخصيته منذ الصغر بما يمنحه الله من هدايا ومواهب، وربما إشارات إلهية للتوجه، يغذيها بالمعرفة والمعارف والاختلاط والتجارب، وحظوظ في أكثرها، بأن يكون له في حياته أبوان على قيد الحياة يحملان وعيّاً وانفتاحاً على الحياة ليرشداه نحو حرية الاختيار المسؤول، ودخول معترك الحياة لوحده، ووفق قناعاته فدنياه غير دنيانا، وزمنه غير وقتنا!