تتذكرون تلك الأغنية القديمة للطَلّابة البسيطة في مجتمعنا القديم، ولا تزيد على جملتها تلك أي توجع أو ادعاء بأمراض مستعصية، وكانت ترضى بالقليل لأنها محتاجة، اليوم الشحاذة أصبحت حرفة، ودخلت في لعبة الزي الوطني، وهي مهام أخرى وجديدة غير مهامه التي خلق من أجلها، كمصدر للفخر والاعتزاز والهيبة، لأن ظاهرة التسول أضفت عليه اليوم بعداً جديداً، حيث يستغل على نطاق واسع من أجل التستر والتخفي ومحاولة لبس قناع مزيف لشخصيات مزيفة ترعى من جيوب الناس وكدهم وعرقهم، إما بالسرقة الواضحة أو اغتصاب حقوق الآخرين بالإكراه أو نشل محافظ الناس بطريقة دبلوماسية لا تخلو من سياسة وتمثيل ولعب على القلوب الطيبة الضعيفة، ولأن ظاهرة التسول اليوم، خاصة يوم الجمعة أصبحت سرقة غير معلنة، فقد اختفى الشحاذ القديم أبو رجل مكسورة أو صاحب الحدبة أو الشيخ الضرير أو ذاك الذي يكسر يده ليشحذ عليها، مستدراً عطف الآخرين وحنوهم عليه، أو تلك العجوز المتدرعة بعباءتها السوداء والمتكومة عند أبواب المساجد. شحاذ اليوم يتخفى وراء الملابس النظيفة وبعضهم تصل طربوشة كندورته إلى ركبته، يتعمم بحمدانية ويرتدي نظارة شمسية تقليد ماركة، صناعة هونغ كونغ، يتلقاك في الشارع وحين تهم بركوب سيارتك، وهو العارف بأنواع السيارات وأثمانها وقيمتها الاجتماعية، حيث لا يعقل أن يكون شحاذاً وجاهلاً، لذا يميز الناس من نوع سياراتهم، لتكبر معها القصة ويكبر المبلغ، فما يطلبه من صاحب السيارة الألمانية لا يمكن أن يكون مثلما يطلبه من صاحب السيارة الكورية، هؤلاء الشحاذون الذين يرتدون الزي الوطني حين تراهم لا تشك فيهم، وحين يسلم عليك أحدهم لا تفرقه عن عيال بطنها، أما إذا حك أنفك بسلام «عيناوي» يا سلام، حينها تخجل أن ترده ولو طلب رأس ولدك، لكن ما إن يتكلم شارحاً قصته الميلودرامية حتى تعرف أنه والصدق خصمان، أما النساء الشحاذات لابسات البراقع فقشرة الجلد غير التي نعرفها، والرمسة غير تلك التي كنا نسمعها من نسائنا، هؤلاء النسوة الجدد تجدهن لابدات عند البنوك، بالقرب من ماكينات السحب الفورية، تظل الواحدة منهن تنتظر وتناظر من تحت الغشوة، وربما عدت معك الفلوس المسحوبة، لتداهمك فجأة ساردة لك مشاكلها الملونة، قصص الأفلام الهندية المكررة، لتظفر منك بأي مبلغ، متحججة برغبتها في اللحاق بأهلها في ليوا، رغم أن الحديث كله لا من ليوا ولا من دونها، وإن تحججت أنت بعدم قدرتك على مساعدتها، فسيطير البرقع التركيبة وتلعي بالصوت ساخرة منك ومن بخلك لأنها شاهدتك بأم عينيها وأنت تسحب النقود، أما الإخوان الذين لا تقبض من حديثهم الطويل غير جملتين مفيدتين هما: طلب المساعدة والعون؛ فكلهم يشتكون من أمراض عضال وأوجاع مستديمة وأسقام مزمنة، فنفس الشخص يدق باب بيتك مشتكياً من انتفاخ في الطحال، وتلقاه في السوق فجأة -أنت تتذكره، ولا يتذكرك- يشكو هنا من هشاشة في العظام، رحم الله «بيبي روزنه، وطلبها القديم البسيط: يا الله.. من مال الله»!