ما هي أسباب تلك الجدية المصطنعة في المسلسلات التاريخية العربية؟ كيف تسربت لحياتنا، وأصبحنا لا نتقبل عملاً تاريخياً عربياً إلا بتلك الصرامة والشدة والقوة المجانية، والمبالغات في تفخيم الصوت، وتضخيم الشخصيات، حتى الضحكة أو القهقهة حين تخرج، تخرج بصدى صوت، وكأنها خارجة من قعر بئر، شعر طويل ومسدل على الجانبين، وكحال مزر العين، وملابس غلاظ، تقول مشتراة من سوق الزَلّ، في تلك المسلسلات معظم الشخصيات لا تشبهنا، فهي مصنوعة من خيال متخشب، ولغة مقعرة، ولا علاقات نفس بشرية سائدة، القتل وإراقة الدم عندهم بـ «بيزه»: «مُرني يا مولاي فأقطع رأسه أو أشرب من دمه»!
لقد لعب الكتّاب بالشخصيات التاريخية، وقدمها المخرجون بطريقتهم السطحية، خاصة في البدايات فترسخت بصورتها النمطية، ولم نستطع الخروج من شرنقتها، ترى العرب لديهم مدن وحواضر وقانون وعُرف وقبائل تحمي أفرادها وتحالفات ومصالح متبادلة، في حين بقيت تلك المسلسلات إلا جمال رابضة عند خيمة لا يسندها عماد، ولا بينها حاجب، ونار من حطب جنبها، وإلا بيوت أندلسية وقيان ومزاهر، وكأنها في العصر الأندلسي، في حين قصتنا تدور حول شخصية في بداية الدولة الإسلامية الأولى، لقد رسخت أعمالنا الدرامية التاريخية صورة العربي النمطية قبل أن تتناولها السينما في أوروبا وهوليوود.
الشخصيات في كل العالم، وفي كل العصور، تتكون من تفاصيل يومية، وإيقاع زمني، وأمور مزاجية ونفسية يتفاعل معها الإنسان، ويكتسب خبراته، ويفضي بحكمته، وتخلق شخصيته، نحن نقدم الشخصية في قالب أسمنتي جاهز الصنع، فإذا كانت شخصية قائد، لا نراه إلا بملابس القتال، ومتقلداً سيفه، وإذا كانت شخصية عالم، لا نراه إلا في صومعته، ولا يفسخ جبته، ولا يلقي بعمامته.
في مسلسل «الحجاج» طوال ثلاثين حلقة ما شفنا فيها من يتقمص شخصية الحجاج أنه توضأ أو ركع له ركعتين أو صلى على النبي، ثم أن حياة الحجاج وهو في الصغر من أهم مراحل تكوين شخصيته التي عرفه بها الناس، وبعد أن تحول ذلك المعلم الثقفي الذي يدرس الأولاد إلى شخصية مختلفة، وصفت بالقسوة والسطوة، وحتى أردف وراء اسمه صفة الطاغية!
الشخصيات التاريخية التلفزيونية التي تقدم لنا خاصة في رمضان، والتي فيها صناعة العجلة، والمط بقدر أيام الشهر الفضيل، ما رأينا فيها أحدهم ألقى طرفة أو ضحك على نادرة أو حتى داعب أولاده الصغار، ما ترى حرمة تتشاجر مع جارتها كلهن في قصور زاهية وغرف عالية أو جار يحسد جاره على قوة مطيته، وشدة بعيره، كلهم متصالحون مع أنفسهم والآخرين، وبعض من هذه المسلسلات ذات الإنتاج الهزيل يختصر لك الكاتب والمخرج معركة مثل معركة «ذات الصواري» بجملة بعد التكبير: لقد انتصرنا عليهم يا قوم، الله أكبر.. هزمت الروم.
لابد من إعادة تقييم أو تقويم لما يقدم لنا من مسلسلات تاريخية أو حتى التي تخص الإرث والتراث وشخوصها، لكي لا تضيع الأمور، ولا تتشابه الأشياء، ونصبح نعشق أصناماً رسمت لنا من خلال الدراما التاريخية مسبقة الصنع.