لا أخفي أن المدن التاريخية في العالم هي التي لها الحصة الغالبة في السكنى على الضفة الشمالية، حيث جهة القلب، وهذه المدن يغلب عليها أن تكون حارسة للمعابد والمساجد والكنائس والبيع القديمة، هي حاضنة للتاريخ في امتداد عمقه، وتلتحف بأحداثه وحكاياته، لا أنسى «معلولا» مثلاً تلك المدينة التي يحرسها الحجر الصلد، مالطا التي تشبه بقعة فارّة من كتب التاريخ، ولا تريد أن تعود لشقائه، القدس، هي المدينة الوحيدة التي اختلت على أرضها القدمان، وتاهت الاتجاهات، وحدث شيء هزَّ التوازن، ذاك الشيء الذي يتناغم فيه الرأس مع الجسد في لعبة الطفو والعوم ثم الثبات، في القدس لم يحتمل الجسد ما كان عنها ومنها في الرأس، جئتها مثقلاً بأشيائها.
وشيء من هذا وأكثر حين دخلت مكة أول مرة، وحين زرت المدينة المنورة أول مرة، رجوت متمنياً ألا ترمد العين بعد رؤيتهما.
«كاتمندو» هكذا تبدو للزائر، مدينة مغلفة بالديانات والأسرار الساكنة الجدران الباردة، تنبعث منها أبخرة الأعواد المحترقة في معابدها، وتلك الألوان التي يتدثر بها المتنسكون بأردية برتقالية زاهية أو بنية قاتمة، تشعر أنها قطعة خلقت للاختباء التاريخي للهاربين بدينهم، والبعيدين عن دنياهم، ثمة بدائية مستوطنة فيها، ولا تريد أن تتغير، ولا يتغير التاريخ، كانت تقع في طريق الحجاج القديم من الهند إلى التبت والصين ومنغوليا، استمدت اسمها ومعناه «المعبد الخشبي» أو معبد «كاثامانداب»، من بنائها في القرن الثاني عشر من خشب شجرة الـ«سال»، تكثر فيها المعابد البوذية والهندوسية، مثل معبد «سويامبهوناث»، ومعابد «الآلهة الثلاثة»، ومعبد «جيسي ديفال»، حتى إنها تطبع زائرها بشيء من السكينة الدينية، ومعاني شعائر الزهد، ولا تجد فرصة لمزاولة الشر الساكن في صدور كثير من الناس، ثمة هيمنة للمدينة المتعبدة، وحضور لمكانها الجبلي القريب من السماء.
دائماً ما تخلو المعابد الحديثة في الدول الأوروبية وأميركا من عميق نسكها، وعطر تقواها، كما أن جوار تلك المعابد يمكن أن تكون بقالة أو «سوبر ماركت» أو علب الليل أو شركة لبيع الأجهزة الإلكترونية، في بلدانها الأصيلة تجد العزلة للبناء، وثمة توحش وتوجس قبل أن تصله، والوحدة للمكان، بحيث يمكن أن يسكن كهفاً أو يعتلي قمة جبل، وهناك شجر كثيف يمتد عمقاً وطولاً، وثمة فسحة من فراغ تضفي هيبة أخرى على المعابد، وحدها الكنائس والكاتدرائيات تشعرك أنها ولدت هنا لتبقى، وتتجلى، كأيقونات من فن ديني خلق أوروبا التوسعية، ثم طلقته من دنياها ومعاملاتها كطلاق كاثوليكي، هناك تطاول في البناء، وهندسة معمارية غاية في الجمال وزخارف، وزجاج معشق، وأيقونات، وجداريات، ولوحات فنية ثمينة، ومكتبات تضم أسرار القلم وما دوّن وكتب في قرطاس وعلى جلد وألواح، دائماً برودة الكنائس توحي لي بأسرار كهنوتية ولاهوتية، مكانها خلف أبواب سميكة من خشب لا ينخر ولا يتحول، ومفاتيح وأقفال من حديد وفولاذ، وكم رأيت من كنائس في مدن العالم، لكن عند مثل كنيسة بيت لحم، والناصرة، لم أشعر بتلك القشعريرة الفطرية، مثل «معلولا»، ساكنة حضن الجبل، حيث أخرج لي راعيها الأكبر يومها شيئاً مما عمل من عنب، عليه غبرة تربة الزمن، ورائحة الكهوف، وقال لي: لا تفتح إغلاقه، ولا تمس إحكامه، إلا إذا كنت طاهراً، فرحاً للغاية أو حزيناً حد احتياجك صدراً تبكي عليه، كنشيج طفل يتيم! كانت هديته غالية، ووصيته أغلى، فتجملت على الأيام وصروفها بالصبر والصلاة.