- هي محبة وعشق قديم يتجدد، لكن من يعرف باريس طوال 45 عاماً بصفته شاهداً على سنواتها، وباحثاً في تفاصيلها، وعارفاً بعمق مكنوناتها، يمكن أن يفصح عن ما في قلبه تجاهها، كل المدن تكبر، وقد تتوحش، لكن الأمر غير المقبول أن تكبر مدينة مثلها، وتتنازل عن جمالياتها وألقها وتأنقها لصالح القادم الطارئ، والمهاجر العابث، وقليل الانتماء للمكان ومحفوظاته، سواء أكان ذاك المهاجر من أطرافها أو مستعمراتها أو ناشداً مدينة فيها الأمن، وفيها المعرفة، والتصالح مع الأشياء، باريس اليوم لها وجه آخر، حتى إنها أوحت لك بالأمس أن بعض الأشياء لا تعنيها، كأن يخرج الديوك من تأهلهم الكروي النهائي أو يمضي الرجال الزرق نحو مباراة التتويج، لا تدري لِمَ غاب ذلك الصهيل تجاه الأشياء التي ترقّص القلب!
- هناك لهاث يومي نحو أشياء لا يستطيع الإنسان العادي أن يمسك بها، لهاث مع خوف أن تنقصه العملة التي في يده، ولا يريد أن يثقل كاهله دين البنوك، هذا اللهاث يولد الغبن والمظلمة على الوجوه الهائمة، وهناك شبه كآبة تظل الرؤوس المتعبة في دوامة الحياة.
- المشاركة والشراكة في الحياة غدتا مبنيتين على الجمع والطرح، والمساهمة من الطرفين، وحسابات للوقت، ولكل الأشياء، فأي فتاة متعبة طوال النهار يمكنها أن ترى جمالها وفتنتها في المرآة في الليل، وأي زوج تغيب عنه الأنثى وتفاصيلها من البيت، ويغيب دفؤها عن المكان، وتغيب ضحكة الرضيع من المنزل الصغير، يقبل بالكد، وتحمل مشاق الحلم، ومصالحة الحياة الزوجية.
- غاب التأنق من شوارع باريس الكبرى، وغاب قبله ذلك التأدب الرومانسي المبالغ فيه، مثلما غابت كلمات الترحيب والشكر، وإشارات الوداعة والبشاشة في وجه الآخر، غدت مدينة تحوطها وجوه أغراب لا تعرفهم، ولا يعرفون لغتها، ولا أحاسيس تفردها، باريس اليوم مدينة مصفرّة تهاجمها علات، لن تعرف كيف الخروج منها بسهولة.
- في باريس اليوم لم يعد هناك ذاك «الكرسون» المحترم والمتأنق، والذي يحمل الصينية على أطراف أصابع يديه، وينحني في «الغادية والرايحة»، ويظل يشهيك بوصفه للأكل ومقترحات الوجبات المهمة، وما يصحبها من مشروبات وأجبان نادرة، اليوم تقاعد ذلك الذي كان أكثر من «جنتلمان» ويحب المكان حَدّ الإخلاص، ويحب عمله حَدّ التفاني، وحلّ محله «الشلوع، وكاسر مَلّه» والعمال الطارئون، مثل الذي يعمل في المقهى والمطعم، ويتطلع دوماً لعمل آخر، ولو كان عامل توصيل طلبات إن كان الأجر أكبر.
- باريس.. مدينة تصلح لي، لكنها غدت تتغير من سنة لأخرى في طريق يسلبها أشياءها وتفاصيلها المتفردة بها، ويسلب من عيون محبيها كحل الإعجاب والمحبة، ويفرّغها من روحها الجميلة التي كانت تستدعي عشاقها من الجهات الأربع، ولا ندري.. هل تغيب الأنوار والتنوير عن مدينة النور؟