أحياناً نختلق حكاية، ونزرعها في المكان، ثم نضفي عليها قداسة المكانة، وهكذا تعيش لتكبر في قلوب الناس، لأننا نعيش في كثير من الأحيان في مسلمات أو بديهيات، نكون نحن من صنعها عبر أجيال حتى تصبح قناعات جماعية ثابتة ومعمقة في دواخلنا، ونصدرها حتى للآخرين، ومن الصعب تحريكها أو زعزعتها أو محاولة مسها، لأن هناك الآف المدافعين والمنافحين، وحرّاس مرمى هذه القناعات التي مع الوقت قد تكون من المقدسات أو من المكتسبات الوطنية، ولنتخيل مثالاً، ولكم أن تبنوا عليه:
كان يا ما كان، في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، مقاتل ملّ من الكرّ والفرّ، ومقارعة أصدقاء الشر، حتى بقيت معركة أخيرة، وقلعة منيعة حصينة، وقد أعدت العدة، وحانت ساعة الصفر، فبيت القوم النية بأن الهجوم بعد الليل، وقبل الفجر.
ذلك المقاتل كان في ساعة ضجره، ولحظة تقاعسه، حتى إنه لم يقاتل كما ينبغي ولم يساهم في اقتحام القلعة المحصنة، وكاد أن يتخاذل في آخر لحظة للهجوم، وحين تم فتحها أراد أن يعتلي سورها ليرفع الراية زهواً بانتصار يريد أن يحسبه لنفسه أو ليصور نفسه «سليفي» بلغة اليوم، فنهض واحد من الجرحى في آخر رمق، فتحسس جنبه فوجد في كنانته آخر نبل من السهام، فصوبه نحو صدر ذلك المقاتل الفرح في استراحته، وأرداه قتيلاً، حضر الجند وتدافعوا نحو ذلك الجندي الجاثي على ركبتيه أعلى سور القلعة، وفي يده العلم لم يسقطه، وزاد من دراماتيكية الموقف أن سل سيفه وركزه في الأرض ليسنده عن السقوط.
من شهدوا ذلك المشهد سيروي كل واحد حكايته من وجهة نظره، ومن زاوية المشهد الذي رأه بأم عينه، لكنهم جميعاً لن يقولوا إنه كان من المقصرين في الهجوم الأول، وإنه انتهز فرصة النصر، ووجد له فرجة، ودخل منها ليسجل ظفراً غير مؤكد، لن يقول أحد إنه انتهازي أو لديه فضول كبير لم يستطع مقاومته، وإنه كان يمكن أن يتخاذل ساعة الهجوم، ويسبب كارثة لزملائه، جل أقوالهم كانت:
- كان جندياً مقاتلاً شرساً أرهب الأعداء، «إضفاء شجاعة أسطورية على صورة البطل».
- لقد أبلى بلاء حسناً ذلك اليوم، «دليل التميز».
- مثله لم تلد النساء بعد، «دليل الفرادة».
- لقد مات شهيداً دفاعاً عن العروبة والإسلام، «ليعطوه بُعداً قدسياً، ورنيناً قومياً».
- لقد جندل قبل مقتله جنوداً مجندة، «دليل الفضل».
- بعدها.. كان نصب، وكان شارع، وكانت مدرسة، وكان مسجد باسمه، وقصائد تتغنى، ودرس في المنهج الدراسي، ومسلسل تلفزيوني في رمضان، أعد على عجل بناء على توصية، بعدها.. من يستطيع أن يحرك تلك اللبنة الرطبة التي تحت رأس ذلك المقاتل، والذي أصبح شيخ المجاهدين، وبنيت فوق قبره قبة خضراء، وبدأ الجيل تلو الجيل يتبركون به، ويضفون عليه شيئاً من الكرامات، وأصبحت له مكانة بين المزارات، وسيعين لأجله سدنة وجباة ومتصرفون لإدارة شؤون المزار، وصيانته واستدامته، وسيتبرع أحد من المحسنين أو من السياسيين الطامحين لمقعد برلماني أو بلدي بدهن القبة بلون ذهبي، وآخر سيتبرع بتغيير السجاد النفيس، وكلما هلت مناسبة يذكر فيها بالخير، وتعدد فيها مناقبه!
-الأيقونة.. اليوم محصنة، وعصيّة على الاختراق، ومحوطة بنصوص لا تُمحى، وحراس منتفعين من أهمية المكان، وقداسة المكانة.