تعصف بي أفكار كثيرة كلما واجهت كذباً واضحاً من أحدهم، وأبحث بفضول مع نفسي عن سبب معقول لفعل ذلك. ويزداد غضبي إذا كان لهذا الكذب تبعات تضر بي، كوني لم أُفعِل دروعي الوقائية التي شحنتها كثيراً بسبب الكذابين الذين تعرفت عليهم في مسيرتي الحياتية، فعادة وللأسف أكون ميالة للثقة بصدق قائلها.. وذلك رغم عدم منطقية هذا الميل!
حسب فطرتنا السليمة، فإننا نميل إلى تصديق الآخرين، بمعنى أننا نعتبر أن ما يقال أمامنا عادة هو الصدق. أذكر دراسة علمية اطلعت عليها منذ زمن تقول إن الصدق يخرج بتلقائية طبيعية، ولعل سبب ذلك ميلنا للتصديق، غير أن الكذب يتطلب جهداً ذهنياً حاذقاً مرناً، كونه يتطلب خيالاً خاصاً وقدرة على ربط الأمور واستعراضها وهذا ما يعتبر حذاقة، ولكنه أصبح مؤخراً وللأسف لا يتطلب سبباً لاستحضاره، وهنا مكمن الخطر.
نحن نصدق الآخرين حتى يحدث ما يثبت عكس ذلك. هذا العادي والطبيعي والضروري قبل كل شيء لحفظ حقنا في عيشة هادئة، لأن افتراض كذب الآخرين «أولاً» من شأنه أن يجعل حياتنا يملؤها الشك والتوجس فتصبح أكثر صعوبة وانشغالاً بالبحث والتحري في كل صغيرة وكبيرة، كما أنه، لماذا علينا افتراض كذب الآخر طالما أن لا مدعاة لذلك؟! ولكن ما سندركه لاحقاً هو أن هناك دائماً مدعاة للكذب، قد لا يعلمها الكاذب نفسه!
يكذب الناس لتعزيز صورة الذات أو لحمايتها وللتأثير في الآخرين، ومن ضمن هذه الأسباب تتدرج المصالح المتحققة، بين منافع مالية أو شخصية كجذب الغير والتأثير في قراراتهم أو حتى فقط لإضحاكهم، بحثاً لنفسه عن مساحة بينهم. كما قد يكون الكذب بغرض إيذاء الآخرين والتغرير بهم، أو لتجاهل الواقع أو التستر على بعضهم ومساعدتهم، وغيرها من الأسباب الكثيرة التي قد يعتقد أصحابها أنهم يصنعون خيراً. ويكذب بعضهم كذلك لاستعراض قدراته الذهنية وحذاقته ولإثبات سذاجة الآخرين، الذين عليهم النظر للأمور من منطلق جديد يخالف طبيعتهم ويفترض في الآخرين «الكذب أولاً».