لا أخفي حبي وشغفي وتعلقي برؤية تواقيع الناس أو إمضاءاتهم الخطية بشكل أدق لغوياً، وهو دأب ما انفك يتبعني حتى اليوم، لذا كان الاهتمام الأول أو الفضول القاتل بمعرفة نوعية تواقيع المشاهير والزعماء والملوك والرؤساء والفنانين والأدباء والرياضيين وغيرهم، وقد كنت أجمع الكثير منها، وبعضها كنت أطلبه من الأشخاص الذين التقيت بهم أو ربطتني صلة بهم، وهي مادة أراها شيقة ونادرة، أعدها الآن لتصبح كتاباً للنشر مع التعليقات عليها، وتقديم نبذة عن صاحب التوقيع، وصورته، وأشهر وثائقه، ومناسبته، وصور جمعتني معه، وقد كنت في الصغر أحاول تقليد تواقيع الناس لدرجة لا بأس بها من الدقة.
رباعية الإمضاء والتوقيع والبصم والمهر، وما يتبعها من الختم والتوثيق، كانت تعيش مع الإنسان عبر العصور، وبدأ في التخلي عنها واحدة.. واحدة، بحكم مجريات الحياة وتطور الأشياء فيها، فهل سيصبح التوقيع من الأشياء الماضية في حياة الإنسان بعدما ظهرت البصمة الحديثة، بصمة الإصبع والوجه والعينين الرقمية، وبعدما أصبح الإنسان يستعمل الأرقام المشفرة، في حين بقي الختم والتصديق مختصان بالمؤسسات أو الحكومات والدول.
وبالرغم من الاختلاف بين التوقيع والإمضاء، إلا أن الناس لم تفرق بينهما، وأصبح التوقيع يعني الإمضاء، والصحيح أن كلمة الإمضاء أصح لما نعني بالتوقيع اليوم، وهي كلمة موجودة في اللغات الفارسية والتركية ولغات شعوب آسيا الوسطى بنفس النطق والمعنى، والإمضاء يعني أجزت الأمر وبصمته بأحرف من اسمك أو مهرته باسمك، في حين التوقيع هو التعليق على الرسالة أو المظلمة أو الكتاب؛ كأن نقول معلقين على الطلب أو الحكم؛ يعرض على مجلس الإدارة أو تم الإجراء أو علم ويرفع للجهات المختصة أو شوهد، ويعمل بما جاء فيه.
بعض من تواقيع الناس أو إمضاءاتهم لا بد وأن تستوقفك، تجد واحداً يوقع من وراء خاطره، وتقول: ماذا يجبر هذا الشخص على التوقيع دونما اقتناع؟ وكأنه يوقّع على إفلاس دكان واحد من جيرانه، وبعض من هذه التوقيعات، مثل وجه شخص بات يتقلب كأنه نائم وهو يقظ، كعجينة طحين غير مختمرة، وبعضها لا يوحي بالثقة تماماً، ويشعرك أنه ينوي على الوقيعة بك، وحده التوقيع المهم يعجبك كيفما كان؛ لأن وراءه كل الفائدة، ورؤيته مدخل للارتياح، والتنفس بعده بعمق!
من الإمضاءات الجميلة التي رأيتها توقيع «كمال أتاتورك» بالحروف اللاتينية، والذي هو قريب الشبه من توقيع «الحبيب بورقيبة» الذي كان يمضي اسمه بحروف لاتينية أيضاً، وهناك توقيع «غيفارا» الجميل، رغم أنه طبيب، لكنه مازج بين توقيعهم وتوقيع الشاعر الثائر، وكان عبارة عن اسمه الأول «تشي Che»، أما «جمال عبد الناصر وأنور السادات» فقد كانت تواقيعهما متقاربة وجميلة ودقيقة، وتوقيع «الشاهبانو فرح ديبا» الذي كان كتابة اسمها بالفارسية العربية الجميلة، لا أريد التحدث عن إمضاءات الأطباء، فهي بالتأكيد تشبه خطوطهم غير المقروءة والعبثية، ولا إمضاءات معظم النساء، لأنها تشعرك أنها خجولة أو كأنها تحمل سراً، وبعضها فيه تقتير، لكن ترى كيف كان توقيع هارون الرشيد الذي امتدت الدولة الإسلامية في عهده إلى أقصى أقصاها، وهل كان يكتفي ببصم خاتم الخلافة العباسية القريب الشبه بالشمع الإنجليزي الأحمر المحفور، والذي ما إن تراه على رسالة أو ظرف رسالة حتى تشعر بتلك الأهمية أو الوقار الملكي؟ وغداً نكمل