من الأشياء التي أحبها، وتدخل شيئاً من الطمأنينة في النفس رؤية دور العبادة في مدن الدنيا، ولمختلف الثقافات والاعتقادات الدينية، تشعرني بوجود حراس ملائكة زاروا هذه الأمكنة، وباركوا الخير الذي يأتي منها، ومنعوا الشر إذ يمكن أن يخرج منها، لها جميعها رائحة البرودة ذاتها، وهي مكمن للإيمان إن كان للإيمان حروف من نور أو رذاذ من كوثر أو سكينة تلقى في الصدور.
لذا تعد دور العبادة من الأماكن التي تجذب السائح المعرفي، لصلتها بالتاريخ وأحداثه، وسيرورة الوقت وصيرورة الإنسان، دائماً هي رمح المقاومة، وحصنها، وأول ما تهتز إذا وطئت أقدام جنود الأعداء أرضها، أماكن العبادة لها تلك التلويحة من بعيد، والتي تقود خطى الجوّال المسافر إليها، لأنها من المناطق القريبة من القلب؛ دافئة، وبالروح عامرة، تقترب منها فتشعر أن رهبة حلّت في الجسد، وأن شيئاً من الاطمئنان تسلل إلى داخلك، فلا تعرف ما هو، غير أنه شعاع ذاك الإيمان الذي تسربه تلك الجدران الباردة بالتقوى ودعوات الخير للإنسان.
كثيراً.. ودائماً ما تستوقفني الأماكن التي لها صفة الدين والإيمان وطقوس العبادة، تشعرني أنها ملجأ لذعر الإنسان حين تتوحش الأشياء والأمكنة من حوله، وملاذ للعجز الإنساني حين تغلق الأبواب، وتضيق المسافات، ويكون الظلم ساكناً بالجوار، دور العبادة في شتى الأمكنة، ولمختلف النحل والملل، لا تتركني أعبر أمامها سراعاً، بل تلزمني ساعة من التأمل، والأسئلة، وتلمس أسرار جدرانها، وثقل أبوابها، وتحضني على الدخول بقدم حافية، وعمامة محسورة، فلبعض الأمكنة قدسيتها التي كسبتها بمرور الزمان، واكتسبتها بما حفظت الصدور من سرديات وحكايات بقيت تكبر فيها، وتودعها في رؤوس الناس.
دخلت معابد وأماكن مقدسة للبوذيين في أراض مشبعة بتعاليم «بوذا»، في الهند وسيرلانكا ونيبال ودول شرق آسيا، أما وجود مثيلاتها وشبيهاتها في بعض بلدان أوروبا فقد بدأت المسألة فيها، وكأنها مصطنعة، ولا لها جذور ممتدة كما هو الحال في موطنها الأصلي، كان كل واحد من تلك المعابد في الشرق الأقصى مختلفاً، لا تجمعها إلا تلك السكينة والهدوء البارد، وروائح العود والبخور، كان أول شيء أبحثه حين أدخل مثل تلك الأمكنة، هو الصدق، الصدق في العيون، وتلمسه في الحديث، وفي القلوب، وفي المعاملة، ولعل ما يوازي تلك المعابد البوذية، تماثيل «بوذا» بأوضاع مختلفة، وأحجام مختلفة، من الذهب والحجر والخشب، بعضها عملاق واقف بحجم جبل، وبعضها في وضع الارتخاء والنوم بطول حبل، بعضها يسكن الكهوف، وبعضها يطل على المدن، هناك مظاهر لمشاهد مسرحية، وطقوس تعبدية مصحوبة بإيقاع الطبول الكبيرة القارعة، وألسنة النيران والشموع المتلألئة، والرؤوس الحليقة الحاسرة، وذلك اللون المعصفر والبرتقالي والأحمر، لأردية تلف أجساداً منصهرة لنساك آثروا صوم الدهر كله، وأجساد ممتلئة بعافية التبرعات وهدايا يجلبها الناس المؤمنون من قراهم البسيطة كقرابين، وسلال ممتلئة بالأكل والشرب إرضاء للمعلم، وحده ذاك الناسك الذي كان يعتلي رأس جبل في حد تلامس السماء بالأرض، قرب معبده الصغير الحجري ظل في رأسي، لأنه نذر الموت هناك، ولن ينزل أبداً، ولا أشك أنه بعد تلك السنوات الطويلة مات صوماً، مستنداً على عكازته من خشب الصندل، نعم رأيت ذلك الناسك المتعبد البوذي في بطن جبل سهل المرتقى إليه، صعب النزول من عنده.. وغداً نكمل.