من الأماكن التي تستوقف السائح المعرفي حين يزور الهند، وجزيرة «بالي»، وحتى سنغافورة وغيرها من بلدان آسيا، مثل بورما وسيلان وكمبوديا تلك المعابد العتيقة، والتي يكاد ينطق حجرها وخشبها والأناشيد التي تتلى فيها ليل نهار، كم بكى هنا إنسان، وكم فرح هنا إنسان، هنا استنزل المطر، وما يغيث الناس، وهنا منعت دماء أن تراق، في مختلف تلك المعابد كنت أتساءل دوماً، لِمَ الهند من دون غيرها فيها كل هذه الديانات وأقدمها؟ أهو الفكر والفلسفة في الأرض التكوينية الأولى، زمن الصلصال والطين اللّزِب؟ أم صراع الإنسان مع الطبيعة ومحاولة ترويضها؟ هل تمنع تلك الدور التعبدية الدم الإنساني المقدس من أن يسال أم تفرح به بين الحين والآخر كقرابين؟
دائماً ما تخلو المعابد الحديثة في الدول الأوروبية وأميركا من عميق نسكها، وعطر تقواها، كما أنه جوار تلك المعابد يمكن أن يكون بقالة أو «سوبر ماركت» أو علب الليل أو شركة لبيع الأجهزة الإلكترونية، في بلدانها الأصيلة تجد العزلة للبناء، وثمة توحش وتوجس قبل أن تصله، والوحدة للمكان، بحيث يمكن أن يسكن الشخص كهفاً أو يعتلي قمة جبل، وهناك شجر كثيف يمتد عمقاً وطولاً وعرضاً، وثمة فسحة من فراغ تضفي هيبة أخرى على المعابد، وحدها الكنائس والكاتدرائيات تشعرك أنها ولدت هنا لتبقى، وتتجلى، كأيقونات من فن ديني خلق أوروبا التوسعية، ثم طلقته من دنياها ومعاملاتها كطلاق كاثوليكي، هناك تطاول في البناء، وهندسة معمارية غاية في الجمال وزخارف، وزجاج معشق، وأيقونات، وجداريات، ولوحات فنية ثمينة، ومكتبات تضم أسرار القلم وما دوّن وكتب في قرطاس وعلى جلد وألواح، دائماً برودة الكنائس توحي لي بأسرار كهنوتية ولاهوتية، مكانها خلف أبواب سميكة من خشب لا ينخر ولا يتحول، ومفاتيح وأقفال من حديد وفولاذ، وكم رأيت من كنائس في مدن العالم، لكن في مثل كنيسة بيت لحم، والناصرة، لم أشعر بتلك القشعريرة الفطرية، وكذلك معلولا، ساكنة حضن الجبل، حيث أخرج لي راعيها الأكبر يومها شيئاً مما عمل من عنب، عليه غبرة تربة الزمن، ورائحة الكهوف، وقال لي: لا تفتح إغلاقه، ولا تمس إحكامه إلا إذا كنت فرحاً للغاية أو حزيناً حد احتياجك صدراً تبكي عليه، كنشيج طفل يتيم! كانت هديته غالية، ووصيته أغلى، فتجملت على الأيام وصروفها بالصبر والصلاة.
كانت زيارات لبِيَع ومعابد و«سيماغوك» لليهود في مدن مختلفة في العالم، لعل أجملها ذلك الذي في مدينة «بودابست»، أما طائفة «السيخ»، فلا شك أن المعبد الذهبي يعد تحفتهم وقبلتهم، أما الطائفة البهائية فلهم تلك الدور الموزعة على عواصم العالم الرئيسة، والتي يمكن أن يدخلها أي شخص من أي طائفة، سمتها الصمت والهدوء التام، وتلاوة صلاتك كيفما تريد في بيت عمل ليكون للجميع، غير أن مركزهم في مدينة «حيفا» فوق جبل الكرمل، هو الأشهر والأجمل بحدائقه المعلقة والمميزة، وضريح الباب.
وفي إثيوبيا كل دور العبادة للديانات الثلاث تجدها بسيطة بساطة الإنسان الرعوي، وفي مدينة «تشيان» الصينية زرت مسجداً قديماً، ولا أنسى تلك الأوراق التي كانت من مصحف قديم، هي كل ما بقي منه، وحمّلني إياها أمانة متوارثة، لتكون في مكان أقرب لبيت الله. دخولك دور العبادة حافي القدم، حاسر الرأس، لا يجعلك تخرج منها إلا مغتسلاً بشيء من طيب العطر، وكثير من الطُهر.