صباحاً، وقبل مشرق الشمس، تلونت السماء بوجوه، كأنها الورود عند عتبات المنازل، ولمعت العيون ببريق البراءة، وفرح اليوم الأول، وبالقرب منهم أياد تمسك بالطفولة، بحنان الطير، وروعة الابتسامات الشفيفة، وبراعة الأحلام، في صباح كأنه النهر يغسل الرموش بريشة الشمس المبدعة، كنت من خلف حجب النوافذ المفتوحة على العالم، أطل على ذلك المشهد المهيب، وأبحث عن طفولة غاربة في عيون صغار حملوا عبء النهار بين ضلوع كأنها أغصان لبراعم طلعت عند الفجر، صرت افتش عن ذات، مرت من هنا، من طرف الزمان وكانت يوماً في حلة الوعي الطفولي، ثمرة تتدلى من سنابل الحلم، كنت في ملابس المدرسة، أرفل بالفرح، وشيئاً من دموع ربما لبعض الرحلة القصيرة من ألفة البيت إلى وجوه مدرسين يمسكون بالمستقبل، كما أنهم يحلمون أيضاً بطفولة غربت شمسها.
في يوم الاثنين زفت النوافذ أصواتاً كأنها تغاريد تشقشقت مع بروز الأهداب الذهبية لحناً كونياً، مر على القلب مرور المطر على وريقات اللوز، تأملت المشهد وأنا بين طيات خيالات جمة، أنا في حضرة الذاكرة، أستلهم من صفحاتها دورة الزمن وهو يطوي عباءة، ويفرد شراعاً، وهكذا تكون الحياة مثل حبل ممدود بين ورقتين، ورقة الميلاد، وأخرى لمسعى الطموحات، والأحلام، تشد رحالها في الضمير كركاب تخب في بيداء، ونجود.
نظرت إلى الشارع، كان مزدهراً بحافلات تضم بين أحضانها فلذات أكباد، وتمخر عباب الشوارع، بحمية اليوم الأول، يوم فيه يذرف صغار السنة الأولى روضة، دموع الفراق، فراق البيت، وأحضان الأمهات، والألعاب التي لازمت أيديهم الصغيرة على مدى أيام العمر القليلة، وهناك في الطرف الآخر، أسمع أصوات أمهات يستعجلن الصغار كي ينفضوا بعجلة، إلى حيث تربض الحافلات بانتظار زبائنها الجدد، وسائقون يجلسون على مقاعد القيادة، وعيونهم معلقة في اللا شيء، يستذكرون من خلفوهم وراء ظهورهم، مما جعل بريق دموع محبوسة في المحاجر، وبعض آهات أحرقت أعواد الغربة، في الصدور.
بعد ضجيج كموسيقى مزدحمة بأوتار العزف المخملي، سكنت الشوارع، وأبرت بعض السيارات الخاصة، تسير في بحر خفت موجاته بعد أزيز قد يكون مزعجاً لهؤلاء السائقين غير المتريثين، وأنا في معمعة المشهد الأجمل، شعرت بومضة تلمع في قلبي، شعرت بأن الزمن ربما يكون أرقاماً مترادفة، ولكنه أيضاً منزل من أثاث يشد بعضه بعضاً، زمن الماضي والحاضر، يحضران فجأة ويشيران لزمن آخر من المستقبل ويقولان هناك تكمن الشعلة، هناك تبدو مراحل ما بعد زمنين، هناك الأمل، وهؤلاء الصغار في تلك اللحظة الوامضة، هم «أنا» الآن، في لحظة تجلي اليوم الاثنين كأنه المستقبل في زمن ما، في خيال معين.
تقهقرت وعدت إلى مكاني عند زاوية من العمر، عند حافة فكرة متوجة باللهيب، وجدت ضالة كانت غائبة، تذكرت عمراً، وأيام صبا، تذكرت أحباباً، وأصحاباً، ويباباً تذكرت خضاباً، ملأ زقاق المرحلة، وأيقظ سبات الأحلام، استلهمت منه جمال الأحلام، وروعة الخيال في صباه، ورحابة الأفئدة وهي تمارس نخوة الوجود في علاماته السائلة، وأسئلته الفياضة، وبريق نجومه ذات الرونق العفوي، وفطرة التلاقي بين كفين، مجدولين، مخضبين بنعومة الأشواق، وعطر الصباحات الندية.