هناك إشكالية عبر التاريخ الإنساني الطويل، ومنذ أن عرف الإنسان طعم الكتابة، وليونة تطويع أحرف اللغة ليصنع منها معرفة، وليرقى بنفسه نحو فهم وجوده، وتطوير قدراته، وصراعه اللامنتهي مع الزمان نحو الديمومة والخلود وكسب الوقت لصالحه، ومع المكان من أجل صنع جنان له في الحياة، والتمتع بالملكية المتسعة، وتأسيسه أركاناً عليها بصمته التاريخية، كل ذلك من أجل ترسيخ قوته وسطوته وسلطته وملكيته، تتغير الأدوات لكن الهدف يبقى واحد، ففي الزمان القديم كانت السلطة القوة العضلية، والملكية تصنعها الحروب، ثم تطورت الأشياء حتى غدت القوة في المعرفة، والسلطة تصنعها الحسابات ومجريات الاقتصاد.
لنخرج من ذلك المدخل الذي يمكن أن يكون مقدمة منقوصة أو غير واضحة للبعض، لموضوع العلاقة الشائكة بين حامل القلم والعصا، المعلم المربي الأستاذ، وبين التلميذ وطالب العلم والمريد أو بين المعلم والمتعلم، علاقة تبدأ بالود والمحبة والتضحية والائتلاف، لكنها أحياناً وقد يكون غالباً مع من ينبغ من التلاميذ، ويَبُزّ الطالب المعلم إلى أن تنتهي بالهجر وقد يكون في النفس شيء من البغض والخلاف حتى يتطور إلى الاختلاف.
وفي التاريخ الإنساني أمثلة كثيرة على تلك العلاقة أو الغيرة العلمية أو مخالفة التلميذ معلمه الأول، لكن هناك أمثلة أخرى جميلة، كجزء من نكران الذات، والإخلاص المتفاني للمعلم، حيث نجد في تاريخنا العربي والإسلامي أن قام التلامذة بكتابة «وصايا المعلم» ودروسه وهمشوها أو ذيلوها بشروحاتهم وتفاسيرهم، وأصبحت تلك الكتب تنسب للمعلم، لا للتلاميذ، مثل بعض من أصحاب المذاهب الأربعة مثل أبي حنيفة أو غيرها من المذاهب الأخرى.
«زرياب» لولا هروبه من بغداد بسبب معلمه «إسحاق الموصلي» ولجوءه إلى الأندلس لكان قُتل، وضحى المعلم بتلميذه نتيجة تلك الغيرة العمياء، حين امتدح هارون الرشيد زرياب، وأبدى إعجابه المتناهي بهذا التلميذ الفلتة في الأدب والفن، فقامت قيامة غيرة المعلم من تلميذه، وخيّره بين القتل أو ترك بغداد عاصمة الدنيا حينها، فانحاز زرياب لموهبته وهرب باتجاه تونس ثم الأندلس، ولولا ذاك القرار السريع لكانت الحضارة الإنسانية حرمت من علمه في الموسيقى و«فن الاتيكيت» وما يخص الأزياء وفنونها في وقتها.
اليوم.. وفي عصر الرقمنة، وسرعة المحدثات، وتسارع وتيرة التقانة، أصبح التلميذ معلماً، والمعلم تلميذاً خاصة في الشرق الأوسط وتأخر  منظومة التعليم في كثير من بلدانه، وهو أمر أيضاً يدخل في تلك الغيرة العلمية غير العملية، فيدخل المعلم كطرف أضعف إن لم يتدارك نفسه، لأن حجم المعرفة وكميات التدفق العلمي والمعرفي لدى التلميذ أصبح اليوم أكثر من المعلم للعديد من الظروف والمكتسبات والمحصلات، حتى لم يعد صاحب القلم يحمل قلماً، ولا صاحب العصا تليق بيده في وقتنا الراهن، والرقمي، والذكاء الاصطناعي، والخصوصيات ذات الأبعاد الثلاثة، وأن الحقيبة المدرسية الجلدية اضمحلت حتى غدت في جهاز بحجم كف اليد، فيه الكثير، ويحمل الكثير، ويغني عن الكثير، وصار علينا أن نقبل بقول الجديد: انتبه أيها المعلم، بدلاً من قولنا القديم: انتبه أيها التلميذ!