أحلى وأجمل ما في الأسفار صحبة ماجد أو الالتقاء بأناس جميلين خفيفين في الحال، ثقيلين في الرأس، يضفون على لذات السفر متعة أخرى تجتمع فيها الحواس الإنسانية التي نتشابه بها، وتعدد الثقافات التي نختلف فيها، لكن يبقى الإنسان هو الإنسان في عموم المشاعر والعواطف، ونداءات القلوب، ما يختلف ونختلف فيه تساؤلات العقل، ومتطلبات ما تحمل الرؤوس.
مرة.. ضمتني طاولة مقهى مع ألماني، وفتاة من لوكسمبورغ، وأخرى عربية، وفرنسي، وطرحنا موضوع تواصل الأجيال في بلدانهم، وتعجبت كيف أن اللوكسمبورغية كانت معتدة بأبيها السبعيني، والذي ما زال يحيا الحياة، كما ينبغي لشاب لن يفارقها، وأنه يعتذر لأبنائه الآن، لأنه لم يقضِ معظم وقته معهم، بسبب الشغل، ومتطلبات الحياة، لكنه اليوم وفي وقته التقاعدي، كل وقته مسخر للأحفاد، لكي يعوض ما فاته، وما فوّته على أبنائه، غير أن هناك هوة واسعة بينه وبين أحفاده، لم يستطع هو بعلمه، وتجربته الحياتية أن يملأها، ويقرّب المسافة للوصول للأحفاد، ولم يحاول الجيل الجديد أن يبنوا جسوراً مع ماضي آبائهم وأجدادهم، وحتى لو جمعتهم طاولة طعام واحدة، يكون إيقاع الزمن مختلفاً بين الجيل القديم الذي يحب الأكل ببطء، ويمارس المضغ، ويتناول وجبات البيت، ويثرثر عن أشياء، وتجارب من الحياة، وبين الإيقاع السريع للجيل الجديد الذي يمكن أن يتناول طعامه واقفاً أو وهو ملتهٍ بالهاتف النقّال، ويفضل لو تنتهي هذه المائدة العائلية المملة بسرعة.
الألماني تمنى لو أن أبناءه يستطيعون أن يتربوا كما تربى هو، ولو بقيت العائلة الألمانية كما هي، وقال: إننا نفتقد الأدب في حياة جيلنا الجديد، وعدم الاهتمام بالقيم، وتحمل المسؤولية، لقد غابت الجدّية عن الألماني اليوم، والانضباطية شبه العسكرية.
أكدت على كلام الألماني الذي كان يتكلم، وكأن كلامه عن عائلة عربية أو تركية مسلمة، لا عائلة ألمانية، وقلت: إن العالم متشابه كبرت المدن أو صغرت، فالهموم الإنسانية متطابقة، فقط التعبير عنها مرده للثقافات، وتأثير الجغرافيا والمناخ، وضربت مثلاً لهم: إن جيلنا كان يخاف من المعلم، ويحترم مقامه، ويطأطئ الطالب رأسه حينما يلتقي بمعلمه في الطريق، اليوم لا المعلم حافظ على هيبته ورفع شأنه، ولا الطالب أعطاه جلال مقامه، وزمان لم تكن تسمع في الشارع الكلام المعيب، اليوم تدنت الحياة حتى أصبح العنف اللفظي أمراً عادياً لا يستنكره أحد، غير الأجيال القديمة التي تودع الحياة فرادى وزرافات.
الفرنسي تساءل: هل من الضروري أن أفهم في الأجهزة الإلكترونية مثلما يفهم الجيل الجديد؟ ويكون ذلك كافياً للتواصل معهم، أم أن الأمر أكثر تعقيداً بهروب الجيل الجديد للأمام، من أجل التمايز الذي يريدون أن ينفردوا به، وتراجع الجيل القديم خطوتين للخلف، حفاظاً على الأصالة التي يعتقدون بها، أعتقد أن الهوة تتزايد بين الأجيال بسبب نظرة التطرف من الجانبين، بين القديم الذي ما زال يعيش وهم الأيام الغابرة، والجديد الذي هو ذاهب في ثقافة المعدن والبلاستيك ووهج الشاشات المبرق.
الفتاة العربية كانت تعتقد أنه كلما جاء جيل جديد اكتسبت المرأة مزيداً من الحرية، وفك القيود الذكورية، وهذا ربما يقلص الفجوة بين أجيال النساء، ومرات يزيدها، اليوم المرأة تعيش في وهم المرأة التلفزيونية، عمليات تجميل وفلاتر ولا ظهور في المجتمع إلا من خلال هاتفها، لقد غاب الجمال الفردي، وبرز الجمال الجمعي، بحيث لا تستطيع أن تقول عن تلك المرأة إنها جميلة، وتفردها بشيء مميز، لأن هناك مئات منها مستنسخة، ومتشابهة، أو مقلدة! وغداً نكمل.