في الساحة الأمامية لقصر الشيخ زايد، رحمة الله وغفرانه عليه، والذي بناه في العين في الستينيات، وكان يجاور نخيل واحة العين، بين العقدة وحارة المطاوعة والربينه، وغير بعيد عن الجاهلي، كانت فرقة عيالة «خِيريه» ذاك العصر تدق طبولها في تلك الساحة، ناسياً المناسبة، ولكنني أتذكر كل المكان بتفاصيله وناسه، كان يدور بين صفّي الرزّيفة، وبين الذين يجولون بسيوفهم وعصيهم، والمتميزون من «الزركتيه» والذين يشلّهم الهوى وقصيد الحماس تجدهم يغلون بنادقهم في الأعالي، ويتلاقفونها بمهارة يحسدون عليها، وتبدو عليهم هيبة ذاك الحضور، ومحازمهم المعمرة بالرصاص تمنطق الخصور، وينذر الواحد منهم ما يدخل الميدان ويظهر منه إلا ومحزمه خال من الرصاص، خاصة بعد مزافنة النعاشات، كان يومها الرصاص وإطلاق النار في الأعراس أو ختان الأولاد مسموحاً، وكان الرصاص المفرغ لعبتنا نحن الصغار في ذاك الوقت الذي يشحّ بالألعاب على الأولاد الذين يراد لهم أن يلبسوا الرجولة مبكراً. 
كانت هواية جمع «الجيل» محببة للكثيرين منا، ولا نعرف السبب لذلك، وكنت أعدها في صغري أنها تحلّ محل المدواخ وقت الحاجة والعوز، فقد رأيت جارنا «بن غانم» يشعل منها غليوناً، لكن أحد الكبار من الأولاد، قال لنا: إننا يمكن أن نبيعها لواحد من الرُحل الذين يأتون من الجنوب والشمال، والذين يحضرون فجأة، ويشترون «بدل» وخلقان النساء الفضة القديمة، ويلمعون المراجل وقدور النحاس، ويبيعون الختم وبعض الخناجر، ويرحلون مثلما جاؤوا بسرعة، كانت لديهم مهارات وصُنع كثيرة لا نعرف عنها شيئاً، واحد من الأولاد قال لنا: ترا الحداد «بن قاصور» يشتري «الجيل» لكنه لا يدفع في الحال، يظل يماطل ثم يحلف أنه سيدفع، حتى ينسى الأطفال حلاف «بن قاصور»، ويعدونه مثل حلاف «كافود» الذي يسمعون مَثَلَه من أفواه أهاليهم في ترديداتهم اليومية.
في ذاك العصر، والدور حام، و«خِيريه» ما تدري به يردد مع العيالة أو يفاتن على الناس، فقد كان نحيفاً طويلاً، وعيناه تخيفان، خاصة إذا صبّ منه العرق أو أحد من العارضين تراخى أو ارتكب خطأ، ولا احترم دور العرضة، كان يصرخ بأعلى صوته، بعد ما يوقف الدور، ويكيل السباب عليه، ويخرجه، وإذا أخرجه لن يعود مرة أخرى لفرقته، ولو حلف على رأس أكبر عياله.
كان الأولاد الخفاف سريعي الحركة، ما أن ينطلق الرصاص من البنادق، ويطيح أرضاً وهو يدخن، وبعضه ساخن مثل جمرة غضا، حتى يتلاقفوه بسرعة من تحت الأرجل، ومن على الأرض بلمحة خاطفة، ودون أن يشعر بهم أحد، كانوا في ذلك يتبارون، ويتراهنون من يسبق الآخر، وحدي كنت أظل أتابعهم، ولا أجسر على أن أدخل الميدان بخفتهم، كنت أعتقد في داخلي أنني سآخذ وقتاً أطول، وربما أتعثر أمامهم بتلك النعال «الجَبَلي» التي اشتراها لي والدي من الشارقة بعد مشاهرة جنود «تي. أو. إس» للعيد، وربما تكون «الجيلة» ساخنة وتحرق باطن كفي أو أن أحداً يراني ويخبر والدي الذي يعرف «خِيريه»، وساعتها قد أحظى بفتنتين حارّتين، لكنني تدبرت حيلة أخرى بعد ما راقبت الأولاد الغُبر كيف يلتقطون «الجيل» الفارغة والساخنة بسرعة عجيبة، وأن بعضها يسقط منهم بسبب الحرارة أو يتساقط حين يحاولون إدخاله في جيوب كناديرهم.. وغداً نكمل