الدخول الأول لإسبانيا لا يعادله أي فرح، فأنت قادم، متسربل بأثواب التاريخ، مضمخٌ بعطوره، لكَم عشقت التاريخ، لأنه إبحار في الذاكرة والمتخيل، وبقيت المدن التاريخية هي الأحب للقلب، حيث يمكنها سماع هسيس صدرك، ويمكنك سماع مناجاتها، وحدها من تمنحك شيئاً من سر عطرها، وبهجة لقائها، لأن بين محب الأسفار مثلك، وكتب التاريخ علاقة أزلية، يمتطي فيها الجغرافيا، ليصل للتاريخ، فالمكان وإن كان بعيداً أو جميلاً، حينما لا يكون مثقلاً بعبق مَنْ مضوا، فلا قيمة للخشب والصخر، ولا روح غير روح الزجاج في المكان، هكذا تباعدتُ عن تلك المدن المزخرفة بحداثة اليوم الفجّة، وعشقت إسبانيا، تسللت لي من كتب التاريخ، بشخصياتها وتجلياتها وحوادثها، استشعرت المكان عن بُعد، وحين عرفت الرقي في المغنى والتواشيح المختلفة، تاهت المخيلة مع ولادة بنت المستكفي، وشعراء وعلماء ومفكرين وفنانين وموسيقيين تنخر الموسيقى عظامهم الغجرية من «الترابادور»، والجوالين، انسابت الروح كخيط من فجر ندي مع النساء اللاتي لا أخفي إعجاب شاب صغير بهن، تلك الأندلسيات الآتيات من غمام الوقت في حضرة الشعر، وما يتعلق ويتعتق من دوالي العنب، فتمنيت أن يكون عصري، ذلك العصر.
وحينما مرت بي تلك السفينة العتيقة «ابن بطوطة» عند صخرة جبل طارق، لا أقول استذكرت كلامه، وهو يريد من جنده أن يستعدوا لحريق حبال السفن ولا عودة للوراء، إنما تذكرت جلال وقفته، والمغامرة باتجاه بحر لا يعرفه، ومكان سيفرحه، وتذكرت وأنا متجه للخثيرات أو الجزيرة الخضراء أن ذلك القائد الذي شق له في البحر طريقاً يبساً، سيخاف الكثير من انتصاره، ورايته، ومن تلك البلاد التي فتحت على يده أن تستولي عليها يده، تذكرته وهو مكسور العين أمام جنده الذين خاف عليهم، وهو يشير إلى البحر الذي من ورائهم، والعدو الذي من أمامهم، وهو يساق في سفينة من بقايا سفنه التي لم تأتِ عليها النيران إلى دمشق، ليقبع في سجونها دهراً مع قائده موسى بن نصير، يتذاكران مع الجدران الغدر، وصمت الزمن، وآهات من ندم وحريق، ثم يعيش طارق بن زياد شحاذاً في شوارعها تتصدق عليه أيادي التجار التي تعرف معنى العملة ورائحة الذهب، ولا تعرف حمل السيف الدمشقي، ويموت كأي معدم في أحد أزقتها المظلمة، لا يعرف له قبر، كان ذلك خوف الوليد، وخوف الأشياء المسلوبة بدم الشرفاء، كانت دمعة واجبة السكب عند تلك المدينة الصغيرة المطلة على العدوة الأخرى المغرب، حينما تعلق التاريخ كقلادة من بصر وبصيرة، هكذا حدثتني نفسي في عمر العشرين في أول مغامرة نحو إسبانيا بقليل من الزاد والزوادة، و«البيزتا»، وبكثير من الفرح، وربما غداً نكمل..