هناك أناس عاديون تشعر أنهم يسيرون في ظل الحياة أو على هامشها دون أن يثيروا ضجيجاً، لكنهم ما انفكوا يعلمونك كل يوم شيئاً جديداً، بسيطون في مهنهم، ولكنهم يزودنك من حكم الحياة التي اكتسبوها من هنا وهناك ما يجعلك تتوقف عندهم.
«سردار جي» ليس اسمه، ولكن لقب يفضله رجال طائفة «السيخ» لأن فيه من الاحترام والتبجيل لهم، هكذا تعودت أن أسميه كلما التقيته عند باب الفندق أو بهوه، فهو عادة ما يلتزم بسيارات الزوار، ويركنها، حيث يتعامل مع أنواع السيارات كافة، ويجيد سياقتها، وكنت أسأله: كم نوعاً من السيارات قدت في حياتك؟ فيقول: لا أتذكر، لكنني يمكنني أن أجزم أنني، أنا الذي لا يملك سيارة في بلده، ساق أفخم السيارات، وأكثرها رفاهية، وقد لا يصدقني أهلي، لو قلت لهم إنني أسوق سيارة «R.R» كل يوم، وهي مرتبة لم يبلغها حتى حراس «أنديرا غاندي» من طائفتنا، فأرد عليه: لذلك قتلوها، فيضحك دون أن تغير الضحكة فيه شيئاً من هيبة الرجال المعممين الملتحين ذوي الشعور الكثيفة في الرأس واللحية التي تعرف بـ «كيسا»، والأساور الفولاذية «كارا»، وربما ذاك الخنجر الماضي أيضاً والمدسوس بالقرب من الخاصرة «كيربان»، كإيمان بالأشياء الخمسة التي تبدأ عندهم بحرف الكاف «كاكارس» إضافة للمشط «كانغا» والثوب الداخلي الخاص «كاشا».
مرات أسأله عن الناس، ووجوههم، وطبائعهم، خاصة وهو الثابت، والناس المتحركون، ولا ينقطعون، فيجيبني بكلمات، فأعجب من مقدرته على الاختزال، وتحديد الأمور، وأجزم أنه قارئ جيد، حاله حال الكثيرين الذين نلتقيهم، ولا نلتفت لهم، ونعاملهم قياساً لمهنهم وأعمالهم البسيطة، وهم ربما يحملون قصصاً عنا، وتأملات في حياتنا.
«سردار جي» قبل أسابيع كان يبتسم كعادة مهنته، ويدخل للناس بتلك الإنسانية الدافئة بين الابتسامة والضحكة، وقال إنه ذاهب في إجازة، لأنه تلقى رسالة من أبيه بأنه مريض، فودعته، وتمنيت الشفاء لوالده، وأبلغته سلامي وتحياتي لأهله، وطلبت منه أن يبلغ أباه شفاهة، خاصة حين عرفت أنه تجاوز الثمانين، «بأن من يصل لعمره، ولا يسأم، فهناك متسع من الحياة لعشرين سنة قادمة، ولا مجال للندم»، خاصة وأن عدد الأيام عندكم ستة أيام لا سبعة، فضحك ثانية بقهقهة هذه المرة، فرأى دهشتي، فاعتذر مثل أي هندي محترم، وقال: سأبلغه حتماً، لكن ليتك تدري ماذا كتب لي، ولإخواني المتفرقين في عواصم الدنيا في رسالته الأخيرة، شيئاً من كلام يشبه كلامك، لذا علت ضحكتي سيدي!
فتملكني الفضول أن أعرف، خاصة وأن الهندي والحكمة ينامان ويموتان معاً منذ أزمان سحيقة.
أظهر «غوبيند سنغ» وهذا اسمه الحقيقي، وقد قال لي مرة إنه تسمى باسم المعلم «غودو العاشر» وسينغ تعني الأسد، في حين كلمة السيخ تعني باللغة السنسكريتيه التلميذ أو المريد، رسالة مطوية ومرتبة من جيبه، وقرأ لي منها: «أبنائي.. تعرفون أنني معتل في عمري، وهذه رسالتي ربما تكون الأخيرة، ولا أتمناها كذلك، لذا لا تأتوا إليّ جميعاً، فكلما حضر الأولاد كلهم عند سرير أبيهم، فإن قابض الأرواح ينتظر عند الباب ليخرجوا، من قدر أن يأتي فليأت، لكن لا تأتوا جميعاً، فحضوركم كلكم يعني أن الجنازة شبه جاهزة، امنحوني البقاء، فإني أرى أن هناك متسعاً في الحياة، ولا أرغب بالموت في حضوركم»!
شيء ما هزني في الرسالة، وتلك النهايات التي قد يختارها الإنسان، وقد يتمناها تليق بذاك الوداع الأبدي، غير أنه ليس كل الجنائز قد يحملها النهر بعيداً!