رمال كأنها طيور عملاقة، تخفق بأجنحة باردة، هناك حيث يسجد الليل لقلوب دافئة، هناك حيث ترسل ألسنة النار أشرعة السفر إلى فضاءات خلدها الله، وكساها زرقة الصفاء، هناك يستدعي الوعي رحلة العمر من طفولة ساكنة في ثياب الفرح، إلى مرافئ عمر حملت في ردائها حنين الأيام وذاكرة مفعمة بأحلام، زانها بياض السرائر.
تحت جنح الصمت المهيب وبين كفوف النجوم الساطعة، ترتع غزلان الهوى، وما دار في خلد الوجود، وما حملته سفن الأيام من مشاهد، ووجوه، وابتسامات كأنها وريقات الكتاب المحفوظ.
جلت في المكان، والزمان يتبعني، وصور لها في ثنايا الروح مضارب، ورفيف أحلام جللت فؤاد المعنى بحالات وعي في اللحظات الهاربة، كنت مسهباً في تقليب دفاتر العمر، كنت متوكئاً على ذاكرة وزاد أيام، ربما لم أفقه كيف أمارس الغناء ساعة احتدام دوزنة الطبيعة، وهي تضم بين أحضانها عيوناً، وشجوناً، وما خفي في الخاطر أعظم، وأهم، في تلك الآونة أسلمت روحي لنسمة أرهف من حرير الناعسات، وفي الطيات عبق من عطر، ونظرات، وإخفاق تصفق لليل، وترمي بشرر ألذ من لمسة مرت على الفؤاد، كجناحي فراشة، شعرت أن الزمن يتخلى عن غلظته، ويمنحني إشارة البدء لعفوية تعبث بأثاث القلب، وتفتح صندوق الأيام، تفتح قائمة الأحلام، وأنا .. أنا الطفل، أتلمس تفاصيلي، وأخبئ في الجعبة لعبة «العظيم» وأسرد لليل كيف كان القمر الفضي يستدير على فرحتي، وكيف كان يحرس أسرار الليل، ويلقي بخوف طفولتي من أم الدويس في لجج كأنها عباءة أمي، وبينما أقف، منصتاً لمواء يأتي من خلف الوحشة، نظرت إلى السماء، تأملت الزرقة، ورقصة النجمة، ومناجاة طائر فر من وحدته باحثاً عن سر ربما مر من هنا، وربما توقف الزمن به عند ناصية على قمة شجرة الغاف.
أرسلت رسالة شفوية، شديدة اللهجة، وقلت لليل أن يوقف نحيب الذاهبات تحت سواده، وأن يسرج خيول الصمت كي تغني، وترفع الصهيل، فكم لليل من معنى عندما يتخلى عن فطرة العتمة، وعندما يفرج عن وميض، يكشف أسرار صاحبات اللثام، وأطواق النحور، وأوشحة الخصلات، وهي تعانق جبيناً وجيداً.
الله كم لهذه الرمال من ملكات إبداعية، وهي تقرأ آيات الليل بحنكة الكائنات الجياشة، وفطنة المخلوقات المهيبة، نظرت إلى السماء، قلت هنا تسكن غيمة أجلت رحلتها إلى الأرض، وهنا تسدعي الأقمار خيوطها الفضية، وتنسج حول الكثبان أهداب الحرير، والعشاق يهيمون شجناً، ورنين العزلة يلهمني كيف أعانق الليل بالصمت، وأسرد للنجمة سر الطفولة، وهي تداهمني ببراعة، تمنحني فسحة للأمل، وبأن الطفل الكبير في داخلي لم يزل يغني، ولم يزل يرفع النشيد، عالياً، من أجل ابتسامة تمر من هنا، من طرف الفؤاد، وتروي أعشاب القلب، تحملني على أعطاف زمن، عبر مضايق العمر، وهشم أشيائي، وترك في الطريق بقايا حلم، وبعض طفولة، بلون الرماد.
بعد رحلة شاقة ولذيذة عدت أدراجي، لأقرأ ما في كتاب العمر من صفحات تحتاج إلى إعادة صياغة، فنمت، وحلمت بطائر عملاق يحملني إلى منطقة خاوية من الناس عدا قصيدة مهملة لأبي العلاء المعري.