بقي من حكاية تلك الصورة القديمة من «هايدلبيرغ» لذلك الفوج السياحي المتنوع بعض الأشخاص الوقوف، فقد كنا حائرين -لأن معظمنا لا يقرأ بكفاية قبل زيارته للمدن- بين مرشدة الفوج التي تشبه الخيل الصافنة حيناً، والتي تبدو من بعيد أنها قد تهز في نفوس بعض منا تلك المهارة الفروسية التي لم تكتمل، وبين ذلك العجوز السريلانكي الذي يفهم أكثر من اللازم، حتى أشفقنا على المسكينة، والتي ترددت بعد ذلك كثيراً قبل أن تدلي بأي معلومة مرتجفة، تخرج من بين شفتيها اللتين هما الوحيدتان من علامات الأنوثة فيها، لأنها كانت أقرب لآمر فوج مظلي شارك في الإنزال في موقعة «نورماندي».
سنتعدى صورة المرشدة السياحية التي تلاصق زوجة الأميركي المتصابية، والتي لا تقرّ في مكان، فبعد السريلانكي مخزن المعلومات العميقة المتنقل، يقف شاب يصعب على من يراه أن يدرك من أي بلد هو بالتحديد، لأنه بقليل من التعديل يمكن أن تركب عليه كل الجنسيات لتلك الدول التي شهدت انقلابات عسكرية فاشلة أو منكوبة بفعل الكوارث الطبيعية أو يكثر فيها الفساد والتهريب والاتجار بالعملة الصعبة، يبدو حديث نعمة، ويوحي منظره للغرباء، أنه ابن مهاجر يعمل حديثاً تاجراً للسيارات المستعملة في ألمانيا، قميصه «الفرساتشي» المقلد في تايلند، رغم ألوانه الحارة، وطبيعة القماش الحريري المُصنع، يظهر الرخص عليه، لأنه في غير وقته في ذلك النهار المشمس ببرودة، كذلك النظارة الشمسية المذهبة شغل محلات التجزئة الطارئة في الشارع، لم يعجب بتلك الأناقة المربكة إلا الأميركي، حيث أثنى عليها مراراً، أما اللاتيني فإنه لم يحفل، وبدأ أنه يغار من ذلك الشاب الذي كان ماهراً في التصوير، ومن ملابسه البراقة، وكثيراً ما كان يصرّ في أذن زوجته: إنه عاطل، وربما يكون بوهيمياً أو من الغجر أساساً، ويده خفيفة، بالرغم من أن الشاب أظهر أعجابه بأهل وثقافة أميركا اللاتينية، وتودد لهم بالحديث بالإسبانية التي يحاول جاهداً إتقانها، إلا أن جفلة أدركها من الزوج غير المستقر قليلاً، العائلة اليابانية امتدحت في ذلك الشاب كاميرته اليابانية، وقالوا عنها إنها غالية جداً عليهم، أما الباكستاني، وخاصة زوجته المتحنية، وكأنها ثعابين رملية خارجة من كم قميصها الفضفاض، فحسباه من الهند، وفضلا قفل أي حديث معه، رغم ابتساماته المجانية لهما، وحده العجوز السيلاني كان يهز رأسه له أحياناً إذا ما علق أو ألقى معلومة.
بجانبه يقف شاب من النرويج، يشعرك أنه جزء من تلك القلعة القديمة، كواحد من محاربي «الفايكنج» الباقين، بوجهه الناري، وشعره الأصهب، وطوله الفارع، بحيث يخجل من يأتي به حظه العاثر للوقوف بجانبه، ويجعلك تعاف عمرك، وتشفق بأثر رجعي على أمه التي حملته وهناً، وأرضعته حولين كاملين، وتفرح أن حروب اليوم ليست بالفأس القاطعة، ولا بالسيف البتّار، وإلا لن تطول مقاومتك، ولن تمكث طويلاً أمامه، قبل أن تتجندل كجثة هامدة، بعده شاب وفتاة لم يتزوجا بعد، يمكنك أن تلحظ ذلك لأول وهلة من خلو أصابع الفتاة من أي خاتم عليه القيمة، لكنتهما الأقرب لتفليق الحطب اليابس، تدل ربما على أنهما من بلجيكا، هولندا أو النمسا، وأراهن أن علاقتهما لن تستمر طويلاً.
غاب الشخوص وبقيت الصورة.. وبقيت ذكريات نهار جميل، ذاك الذي حمل حكاية تلك الصورة القديمة التي أخذها ذلك المصور الألماني ذو الشنب المصفَرّ من تبغ الغليون، ودفعنا قيمتها ثلاثة ماركات ألمانية نقداً ذاك الوقت، والتي أصبحت باهتة اليوم لذلك الفوج السياحي الزائر لقلعة «هايدلبيرغ»!