أيقنت أن الزمن ليس إلا من حسابات الأفكار البشرية بعض الأزقة مثل البشر، تكبر مع الزمن، ولكنها تترك ذاكرة مفعمة بالمشاهد والصور والوجوه عندما تزور تلك الأزقة يتدفق في داخلك سيل عرم من تلك الصخور الصلدة، والطمي، تعتريك حالة القشعريرة، ورائحة ما تدلف في أنفك، تجعلك تعيش زمناً غير الزمن، ولما تفكر في خلع ملابس اللحظة الآنية، تقفز إلى ذهنك تلك القطة البيضاء، المنقطة بالأسود، تلاحقك مثل ظلك، تراوغها ولكنها تأبى أن تفارقك، تتذكر كيف كنت تحتضن شيئاً ما، يلامس مشاعرك بدفء، وتسمع صوت شخير مثل خرير الماء القادم من أعالي جبال الوعي، هناك تستدعي الصورة أكثر، وهناك تنزلق قدماك في منخفض هلامي، ينتابك الخوف من شيء ما، ولا تعلم ما هو، ولكنك تشعر بوجوده، لا تفكر بالفكاك، بل تستأنس لهذا الالتصاق، حيث سنوات العمر تنثال مثل زخات المطر، وعند زاوية من الزقاق تقف، تتأمل المنظر، المهيب، وقلبك يفتح شوارع للرهبة، قلبك ينفتح على عوالم مدلهمة، غامضة، وكأنك في حلم ذات ليلة.
أشعت السمع والبصر في المكان، سمعت صوت أنين وربما كان مجرد وهم، ظللت ساهماً، واجماً والصوت لم يزل يحرك المسامع، والبصر، الصوت ذو حنين مسهب في الرقة، حتى ظننت أنك تقف في مكان من عالم الماورائي، وكان الظلام يفترش ملاءة سوداء حالكة، خطوت بعض خطوات، توقفت، تلفت، نظرت إلى المدى الداكن، ورأيت عن مسافة قريبة، ضوءاً خافتاً يبزغ من خلف جدار متهالك، كأنه شمس تخبئ شالها الذهبي وراء غيمة سوداء. مضت ساعة وكأنها دهر، الرمل من تحت قدميك بارد مثل خرقة مبلولة بماء صقيعي، أيقنت أن الزمن ليس إلا من حسابات الأفكار البشرية، ليس للزمن واقع ملموس، ليس للزمن مكان في الواقع، أيقنت أن الزمن صناعة بشرية بحتة.
تسمرت عند زاوية منبثقة من تداعي جدار قديم، نظرت إلى الزمن، كان مجرد هالة سماوية وهمية، تهيمن على الوجود، توقفت عن الهذاءات، توقفت عن فلسفة رواقية قديمة كانت تعتد بالروح وتحتقر الجسد، وأعلنت في تلك اللحظة أن هذا الجسد المنبوذ منذ زمن تلك الفلسفة، يستيقظ هذه اللحظة وينادي بصوت وئيد، قائلاً: أيها العالم المتحضر، تطورت كثيراً، ولكنك لم تزل تضع الجسد في ذيل الأولويات، وتمضي في قتل الروح بلا رحمة، ولأنك توغلت، وتغولت حتى أصبحت في الحياة كائناً وحشياً إلى درجة الافتراس، الكل ضد الكل، هكذا قال توماس هوبز، وها هي النظرية الهوبزية، يعلو كعبها في زمن ضاقت فيه الأزقة، واتسعت شهوة الافتراس. خرجت من الزقاق مذعوراً، خرجت وفي يدي بقعة ملح من عرق. خرجت من الزقاق لا ألوي على شيء، حيث العقل تحول إلى إناء خاو، من أثر بلوغي ذروة الانغماس في زمن الأزقة القديمة، هذه الأزقة في حد ذاتها كانت أبواباً مشرعة على المدى، وعلى أفئدة الناس، عشاق التواصل عبر القلوب، وليس أجهزة الهاتف.