سمعت سيدة مرة تتحدث عن طفولتها في خضم حديث جماعي عن الحنين للماضي، فقالت: لا أريد أبداً العودة لتلك الأيام، ولا أشعر تجاهها بأي حنين. تأملت قولها بكل تقدير لكونها لم تجر لذلك الشرك الذي ينصبه الحنين لنا من فترة لأخرى. فالحنين في أغلبه شعور زائف يتحول إلى شَرك يظنه الإنسان طريقاً للراحة، فإذا به يجره إلى وادٍ من الألم. يقول ماركيز: «لقد محا الحنين، كالعادة، الذكريات السيئة، وضخّم الطيبة». هذا تماماً ما يفعله بعض الحنين فينا. إنه ينساب إلى قلب الإنسان بعذوبة، ويعيد ترتيب الذاكرة كما لو أن ذلك الزمان الفائت قد ارتدى حُلة جديدة مليئة بالصور القديمة الممتلئة بألوان السعادة.
يأتي الحنين ليصور لنا تلك الأماكن الماضية والبعيدة بغاية الجمال فيها وجوه طيبة لأناس لها قلوب من ذهب قضينا معهم أوقاتاً ممتعة.. ولكنها زائلة. في هذه اللحظات، يطفو الحزن على الروح التي غلبها الشوق إلى الماضي، وتبدو كأن العودة إلى تلك اللحظات هي الحل لكل همومنا الآنية.. ولكن، هل حقاً الحنين هو ما يبدو عليه؟!
للحنين مراتب عديدة. في البداية، يبدأ كالشوق إلى ما مضى، لكن سرعان ما يتحول إلى حُرقة على ما فقدنا. ومع مرور الزمن، يتغير الحنين ليصبح شغفاً عاطفياً بالذكريات، فيطمس التفاصيل الحزينة والعادية التي كانت بالفعل، ويغرقنا فقط في اللحظات التي كانت مليئة بالفرح والسكينة! هذا الشغف بالماضي وفواته يتحول إلى حزن يُحَمِّل صاحبه ألماً لا يطاق، ويغدو ذلك الألم مع الوقت وكأنه شفرة حادة تقطع جميع الروابط التي تجمعه بالحاضر، وقد تقطع حياته نفسها. ورغم حقيقة ذلك لماذا إذاً نتعلق بذلك الشعور رغم زيفه؟!
لا أملك إجابة دقيقة ولكني أعتقد ومن تجارب خاصة أننا نلجأ لا إرادياً إلى نقاط أمان وسعادة كانت في وقت ماضٍ عندما يضيق علينا الحاضر، وكأننا نهرب طواعية إلى مساحة استراحة مؤقتة ترتقي بها أرواحنا المنهكة في خضم هذا العالم، نعيد بناء ذواتنا بشيء من مواساة الروح، نخبرها -ولو زيفاً- أنها هنأت في زمان سابق، وأن هناك فرصاً لعودة ذلك!
تلك العودة التي نعتقدها قد تكون في ظروف معينة ممكنة، وقتها علينا أن نتعامل معها بحذر شديد وأمل غير مندفع، حتى لا نصاب بصدمة الزيف التي أقصدها، بمعنى أن تجربة العودة قد تفتح أمامنا نافذة جديدة نرى من خلالها كيف أن الزمن قد غيّرنا، وربما غيّر تلك الأماكن وناسها أيضاً، وقتها يمكننا التعامل مع هذا الحنين بعقلانية متحررة من وهم مثالية الماضي، ومُحرِرة لنا من ذلك الألم القاسي المليء بخيبة الفقد.