في المساء وقبل الغروب بدقائق، تدلف الشمس بشالها الذهبي منازل الغياب الأخير ليوم طوى عباءته، تنظر إلى وجوه الأطفال فتصطدم بالكآبة تملأ الوجوه الصغيرة، تبحث عن السبب، فلا تجد ما يقنعك، فعلى مر الأزمان، أكثر الناس فرحاً بموعد الإفطار في شهر رمضان هم الأطفال، هنا تكشر الدهشة عن أنيابها، وتصفع مشاعرك، وتجعلك تفكر لماذا كل هذه الأحمال الثقيلة تتراكم على كاهل هؤلاء الصغار؟ رغم أنه لم يزل في عمر المباهج الحياتية من بقية، ولا شيء يستدعي كل هذا الغضب، كل هذا السغب، كل هذا الشحوب، والتي أصبحت طبيعة عصرية تلازم الصغار، ويصاحب هذا السلوك فقدان الشهية، وعدم الالتفات إلى الطعام كحاجة فسيولوجية ضرورية، الأمر الذي يجعل من الحياة في البيوت التي تسكنها هذه الكائنات الصغيرة، معارك وجودية، حول الترغيب تارة، والترهيب تارة أخرى، ولا جدوى من كل المحاولات، ولا فائدة من القبلات على الخدود، ومسح الرؤوس توخياً بتليين الخواطر، وإذعان هؤلاء الصغار لرغبات الأمهات، ولكن كل المحاولات تبوء بالفشل، وكل الجدل يخيب، والمساعي الحديثة لا تأتي بنتائج، حتى إن بعض الأمهات، يصبن بالدوار، وأحياناً بالغثيان أمام هذه الصخور الصغيرة الكأداء، والتي تقف مثل الجلاميد تصد وترد جل التلاوات التي تتلوها الأمهات أمام الصغار، لأن أبواب الشهية مغلقة حتى إشعار آخر، وكميات الاكتئاب المتراكمة على الصدور تردع أي رغبة نحو الطعام، ولأن غالبية الأمهات لا يعرفن الأسباب العميقة وراء هذا (الداء) داء العصر، فإنهن يستعن بصاحبات الخبرة، من أمهات قديمات، وصديقات، مجربات، ولكن أيضاً لا جدوى، ولكن عندما نلتفت إلى الوراء، وننظر إلى سبورة الزمان الأول، سوف نجد عنواناً عريضاً، كتب عليه أن مسألة رفض الطعام سواء في أيام الفطر، أو في شهر رمضان مسألة مرفوضة جملة وتفصيلاً، لأن مثل هذه السلوكيات كانت مستهجنة، من قبل الأطفال أنفسهم، لأن التربية علمت أطفال زمان، أن الطعام نعمة من نعم الخالق، وتقضيب الجبين أمام المائدة، والطقطقة، كل ذلك يعتبر مخالفة يعاقب عليها قانون الأسرة، ولذلك كان في ذلك الزمان، الأطفال يحتشدون بالقرب من المساجد، إيذاناً باقتراب أذان المغرب، وكانت الابتسامات تملأ الوجوه الحالمة بلقمة ساخنة تملأ جعبة الأجساد الصغيرة، ويغمة ماء من كأس معدني، يبرد الأحشاء.
هذه التفاصيل الصغيرة، هي التي كانت تشغل الصغار، وهي التي كانت تزرع الفرحة في قلوبهم، لأنهم ليسوا معنيين بما يحدث في العالم من صراعات، تغلق أبواب الفرح، وتغشي العفوية بغبار التحولات الاجتماعية المؤذية، والتشققات التي تصيب المشاعر.
اليوم أطفالنا هم يتجاوزون أعمارهم الطبيعية، وتصبح عقولهم مخازن لأفكار سوداوية، وقلوبهم صناديق محكمة الإغلاق على مشاعر مثل نشارة الخشب.
فكيف لهؤلاء المساكين أن يتحرروا من كبوتات زمن الأحمال الثقيلة، وكيف سيعدون باللقمة، وهم يعانون من تشبع سلبي بالطعام حيث الإحساس بتوفر الأشياء يمنع التفكير بها، والرغبة في الأكل تنبع من التفكير في الطعام، فالمسألة نفسية قبل أن تكون فسيولوجية، والعقل هو المسيطر، وهو الإمبراطور الأكبر في علاقة الإنسان بطعامه.