مثل ترنيمة على غصن، وشجن، مثل حلم الطفولة في ليلة غائمة، مثل أغنيات العيد على لسان الجميلات ساعة الفرح الرهيب.
صوت المسحراتي وهو يعبر محيط القرية، يمشي على تراب برائحة الهريس، والثريد، وحبات التمر المغموسة بأنامل عاشقات العذب، العذاب، والطبل، برنين الليالي الساهرة على ضوء القمر، يشعل في التلافيف مشاعر طفولية كأنها سعفات النخل تهفهفها نسائم ما قبل الفجر.
نتأمل هذه اللوحة، ونمضي في التذكر، ونقلب صفحات كتاب غارق بالمثل، وأخلاق الطيبين، وسجايا من مكث شهر رمضان في قلوبهم، مثل عش الطير بين الأغصان الملتفة حول ثمرة العمر، أولئك الأفذاذ سيجوا وجدان التاريخ بأحزمة من صور، ومشاهد، وأحاديث، مر الزمان عليها ولم تغادر مكانها، هي في الوجد والوجود، توجد كأنها الدر في محارات اللهفة، كأنها المقل في العيون الحور، كأنها الحلم تحت جفون الطفولة، واليوم، ونحن نستدعي الذاكرة، ونحن نتأمل تلك الرسوم الفائقة بالجمال، نشعر أننا نتجول في بساتين، أشجارها بشر مروا من هنا، وابتسموا، وصاموا، وصلوا لله خشوعاً، وكان لسحورهم، رائحة الكفوف الندية، ولون الشفاه السخية، واستدارة خواتم الذهب على الأنامل المنحوتة كأنها الأرواح السحرية، نتذكر، ونقرأ الصحائف والكتب، وما بين السطور، تدهشنا تلك المفردات، وتذهلنا تلك الجمل الشعرية في أطباق السكر والملح، نشعر في اغتراب، وتداهمنا رعشة الفراغ الداخلي، عندما نلتفت، ولا نرى ذلك المساء، الذي كان مزدهراً بدخان رائحته من مسك الأطراف الباذخة بعطر السواعد المنصوبة بعرق المساءات المبهجة، حيث لبدء غروب الشمس، منظره الخلاب، وله مشهده الوجودي المحرض على الفرح، إيذاناً لبدء الاحتفال اليومي لشهر له خصوصيته، وله مذاقه، وله عطره الممزوج بسمات الاجتماع المسائي على مائدة الفرح، وولائم ما بعد أذان المغرب.
في ذاك الزمن تتجلى الأمهات، ترافقهن فتيات في عمر الورود، في احتفال بهيج، واحتفاء بموعد عزيز، وعلى كل صائم، متبتل، وكل ممسك بطرف زمانه من دون فوات، ولا تفويت اللحظات، تلك اللحظات الأجمل، والأزهى في حياة الصائمين، حيث الجمع الغفير من أفراد الأسرة الواحدة، أو الأسر الآخرين، يلتئمون عند صينية الفطور، والشفاه تلهج باسم المولى عز وجل، والتسابيح، والوجوه كأنها أقمار تضيء سماحة، وفصاحة، والعيون كأنها قناديل مضاءة بدموع الفرح، والكبار يبسملون، ويتبعهم الصغار، ولا غياب عن هذه اللحظات، بل غير مسموح بتأخر أحد أفراد الأسرة، ومن يفعل فإنه واقع لا محالة تحت طائلة التأنيب، والتوبيخ، وسلوك مثل هذا، هيأ أجيال بأن تحفظ الود مع القيم، وتتمسك بما يعزز قوة التلاحم، والانسجام، بين أفراد الأسرة الواحدة، وكذلك بين الأسر.
وكما أن المشاعر مشرعة على المدى، فإن أبواب المنازل، كانت تفتح صفحاتها على الوجود، ليستقبل الجار جاره، ويهنئ الصديق صديقه، والأرحام يتوالون في سلسال ذهبي، مؤكدين علاقات أشبه بسلسال الذهب يطوق نحر الوجود، وتزدان به الحياة، في فرح كوني لم يزل راسخاً في ذاكرة الذين مروا من هذا الزقاق، وذاك الحلم.