عندما يهل رمضان يطل شهر رمضان بثوبه الرحماني البهي، ويقبل في خطوات كأنها السير على الماء، يستقبل الناس هذا الشهر الكريم بمشاعر تفترش الفرحة ملاءة حريرية، وترتدي الطقوس الدينية قبعة عملاقة، تغطي الرأس بأفكار سماوية رائقة، وبرائحة ملائكية تغير الحياة رأساً على عقب، وتتبعها تغييرات في العادات والتقاليد والعلاقات، والروابط الأسرية.
كل هذا يحدث أمام الأطفال وهم خير من تطبع في ذهنه كل هذه الكيمياء الاجتماعية، وبدءاً من الصوم، فإن هؤلاء الصغار ينظرون إلى الكبار، وينسخون طبعات طبق الأصل في السلوك الرمضاني، ويقررون الصوم رغم اعتراضات الأهل على الصغار جداً لكونهم في سن لا تتحمل فيه أجسادهم صوم يوم كامل، وبخاصة في الأيام التي توافق الطقس الحار، ولكنهم إمام إصرار الصغار، كانوا يذعنون لرغباتهم، فخورين بنواياهم، فرحين بتصميمهم على مباشرة الصوم في هذه السن المبكرة، ولكن ما يحدث لهؤلاء الصغار بعد يوم أو يومين هو أنهم يخنعون لفطرتهم، ويتنازلون عن كبريائهم، ويعترفون على مضض أنهم لا يستطيعون تحمل العطش على مدى أكثر من اثنتي عشرة ساعة، أو أكثر، ولكنهم يواجهون تأنيب الضمير، فيحاولون التجاسر، بأن ينقضي نصف النهار، ليستسلموا للأمر الواقع، ويختبئون خلف جدار أو باب، ويرتشفون من كأس باردة ما يبلل الريق، وإنْ تيسر بعض الطعام من مخلفات الليلة السابقة فلا ضير، ولكن عندما يتم اكتشاف (الجريمة) ترتعد الأبدان، وتتعرق الجباه، وترتجف الأيدي، ولكن الذكاء الفطري لدى آباء الماضي، كان ييسر كل شيء على الصغار، فيتدخل من اكتشف الواقعة، ويبدأ في تهوين الأمر، وتخفيف حدة الموقف، وضراوة المشاعر التي احتدمت جراء اكتشاف الفعل غير المرغوب فيه، ومن حلاوة الموقف، وطراوة اللغة، ونداوة الفكر، والوعي الذي يتمتع به أولئك الأولون، أن يخفق لسان الوالدة أو الوالد بالقول بأن نصف يوم يكفي لصغير لم يتجاوز الخامسة من العمر، وأنه سوف يحصد أجراً كاملاً وكأنه صام اليوم كله.
هذه وسيلة في التربية، وهذه طريقة لتدريب الصغار على تحمل المسؤولية الدينية، وتعلم الصبر وعدم كسر الخواطر، لأول وهلة يتسرب فيها الصغير، ويخطف رشفة ماء، أو لقمة هريس مثلاً، ولا يعلم الكثيرون بأن مثل هذا الموقف، والتعامل الحضاري مع الصغار، يظل راسخاً في أذهاننا مدى العمر، وكما أن تعليم الطفل على تقبل الحياة كما هي، والتدريب على ترسيخ القيم، ودخول التجارب بصدور رحبة، وعدم الخضوع للإحباطات للوهلة الأولى، وهذه طرق من وسائل عدة تعلمناها في الصغر، وما زالت متشبثة في أذهاننا، لأنها طبعت بأنامل طيعة، وأساليب لينة، لا فيها تساهل، ولا فيها جفاف، هي بين الحالتين، تعلم منها جيل كامل كيف يحافظ الإنسان على القيم، من دون إفراط، ولا تفريط.
الأولون تعاملوا مع الظروف بعقلية واضحة ونقية، ومن دون نظريات، ولا كتب، بل كانت التجربة هي ميدان تعليمي أوسع من الصفحات، وأغنى من المحاضرات.