أحلام الصغار أوسع من المحيط، ومشاعرهم مثل البساط المنقوش بالثلج والبرد، ودموعهم سيالة في أهون الحالات، وأبسطها، واحتجاجاتهم متوافرة في كل لحظة وموقف، وشكاواهم على طرف اللسان كلما اعترضتهم قشة.
في ذاك الـ«رمضان» بكى الصغير بغزارة، وارتعشت أطرافه، حزناً وأسى؛ لأنه عند منتصف النهار شعر بالغثيان، وتقيأ، فشعر بالفزع، ولأنه علم من الكبار أن التقيؤ يفطر، فهرع إلى أمه، وانضم إلى حضنها، باكياً، متأسفاً لما حدث له، ولما حاولت الأم معرفة سبب بكاء صغيرها، أجاب في لهوجة، لقد تقيأت، ولكن الأم الفطِنة على الرغم من علمها أن التقيؤ يفطر بلا شك، إلا أنها ما كانت تريد أن تمر الحادثة كما تمر العاصفة على الجريد، فتهشمه وتمزقه، وتتركه نثاراً، كغثاء السيل، بل اعتدلت في جلستها وأمسكت بيد صغيرها، ثم قبلته على رأسه، وقالت في لهجة واثقة، لا عليك حبيبي، التقيؤ يفطر ولكنك تستطيع التعويض بعد شهر الفطر، وستكون أديت الفريضة، وما دمت لست قاصداً، أو لدواعي المرض، فالله كريم، وغفور رحيم.
رفع الصبي رأسه، وتأمل وجه أمه والدمعة لم تزل تتحرك في محجري عينيه مثل قطرتي الندى، ثم أرسل ابتسامة فرح، أهداها لأمه التي عالجت المسألة بحكمة، وروية، واستطاعت أن تنقذ ابنها من ورطة المباغتة، وأن تستدعي الذاكرة الحية، كي تصحح الخطأ الذي وقع فيه صغيرها، نتيجة عدم معرفته بالسلوك الديني الصحيح لحظة وقوع مثل هذه الزلات المفاجئة، كما أن سلوك الصغير دلّ على المشاعر الرقيقة، والعلاقة الوطيدة بينه والدين، الأمر الذي جعله يشعر بتأنيب الضمير، ويلجأ إلى أمه طالباً، مساعدته على تصحيح ما حدث له، وبالفعل كانت الأم في غاية الدماثة، والوعي، والفهم لمثل هذه المواقف التي يتعرض لها الصغار في شهر رمضان، فهي لم تكتفِ بتهدئة ابنها، ولا التعامل بلا مبالاة بشأن قضية دينية سوف تكون لها توابع في مراحل العمر التالية للطفل فيما لو تمت المعالجة باستهجان، أو بسخرية، متبوعة بضحكة مبتذلة.
الأطفال يحبون من يهتم بشؤونهم، ويلتفت إلى مشاكلهم، ويشاركهم همومهم، ويتعاطف معهم بجدية، ويتعامل مع ما يشغل عقولهم بصورة دافئة، ويأخذ أسئلتهم على محمل الجد، والثقة بما يجول في خواطرهم، والتثبت مما يؤرقهم، ثم البحث معهم عن الحلول.
فوضع اليد على الأسئلة لدى الأطفال، والبدء في إيجاد الإجابات المقنعة، أمر تفرضه الضرورة الوجودية، فنحن قد نتعامل مع أبنائنا الصغار كأطفال، ولا نبدي اهتماماً تستحقه أسئلتهم، وهم واثقون من أنهم يمتلكون شخصيات لا تقل مستوى عن شخصيات الكبار، وحين لا ننتبه لأسئلتهم ينتابهم شعور بالانكسار، وتدور حول رؤوسهم شرارة النقد الداخلي الموجه للكبار، ومن هذه النقطة تبدأ الحلقة المفرغة، في العلاقة بين الأطفال وذويهم.
الأولون قدموا لنا تجارب ناجحة، وقيّمة، وعلى الرغم من عدم حصولهم على التعليم الكافي، إلا أن ذكاءهم الفطري كان المدرسة الأكثر نجاحاً، وتأثيراً في تعليم الأبناء.