صغار كانوا في عمر الورود، وكانت القرية في الليل، وتحت جنح الظلام، تفترش سجادتها الرملية الباردة، وبعد صلاة العشاء، ينتشر الصغار ساعين إلى بيوت القرآن، والموائد السخية، وحيث الأبواب الخشبية مشرعة، ومن خلفها تسمع أصوات النساء وهن يرحبن بالجارات، اللاتي جئن حاملات أطباق العريس، الثريد، ومكبوس الأرز بالسمك.
أما المجالس فكانت عامرة بالأصوات المجهورة، والأحاديث المغروفة من قدور التاريخ حيث بعضهم يتمتع بثقافة دينية، عالية، وبمنسوب رائع من القصص النبوية، وكانت في ليالي رمضان تعمر بهذه القصص، والأطفال الذين تسمح لهم الظروف بحضور هذه الجلسات يكونون محظوظين، ولما يغادرون هذه المجالس، ويلتقون بالأصدقاء وأبناء الجيران،ً يتبوؤون الجلسات بين الأزقة، وعلى الرمال الباردة، ليطردوا ما حفظوه، وتلقنوه أمام أقرانهم، فخورين بقدراتهم على التلقي، ولما تنتهي هذه الجلسات، ويعود هؤلاء إلى بيوتهم، وصدورهم تمتلئ بالهواء البارد، ممزوجاً بمزاج ندي، رائق.
على مدى الشهر الكريم تستمر هذه اللقاءات، والذاكرة تزخر بما جادت به قريحة الكبار، وما بذروه في عقول هؤلاء الصغار، أما النساء فهؤلاء يمتهن الذود عن حياضهن، بمد البصر إلى الأعلى وفتح نوافذ الابتسامات، والخوض في القضايا العائلية، وعلى وقع فناجين القهوة الساخنة، والمرملة بالهيل والزعفران، تحلو السهرات الرمضانية، وغالباً ما تحضر أحاديث الزواج، والطلاق، مضافاً إليها بعض البهارات عن جنون، وشجون الأبناء، وكل واحدة تتنهد كلما ورد على شفتيها اسم من أسماء أبنائها، أو بناتها، وكل يشكو همه، ويبكي دهره، على شغب، ورغب الأبناء، ولكن رغم ذلك كانت السهرات لا تحلوا إلا بهذه المهارات القصصية، الشيقة، وكأن بالنساء، يخطبن ود الحديث عن الأبناء، ليس استياء، بقدر ما هو الشعور بالسعادة كون الواحدة منهن أصبحت زوجة، وأماً، وهذا من أهم المواضيع التي تشغل بال كل امرأة، ومهما بالغت في الإفصاح عن ضجرها من فوضى البنين والبنات، إلا أن العقل الباطن يخبئ ما هو ضرورة وجودية لدى كل امرأة، ولما يأتي رمضان، وتنفتح أبواب الخير على المدى الإنساني يصبح للقاءات طعم الزنجبيل، ورائحة القهوة العربية، ولون السمن البقري على صفحات أطباق الهريس.
في رمضان أيام زمان، الأشياء تلبس أثواب الفرح، وتتشكل الأقمار على وجوه البشر، أطباق نور، وانشراح.
في رمضان الزمان الجميل، تبدو الحوارات الأسرية، مفتوحة على الأفق، لأنه لا توجد تلك الجدران، السميكة، ولا الأبواب المغلقة، بل إن الحياة منفتحة على العالم الأسري، والناس في البيت الواحد، مشروع مجتمع صغير ذاهب إلى التشكل، ليصبح وطناً كبيراً، يغذي طموحات الوطن الأكبر.
في الزمان الجميل الجلوس على مائدة الفطور، سلوك مقدس، ولا يقبل التفاوض من أجله، ولا الأعذار، ولا أحد من أفراد الأسرة، يبرر تخلفه لأسباب خاصة، في هذه المناسبة، تختفي الخصوصيات والقلوب كما هي السماء صافية، مفتوحة على الوجود، بعفوية، جميلة، لها لون عيون الأطفال، ووجنات الكائنات الأنثوية الجميلة.