ما أن يُرفَع أذان المغرب حتى يثب أفراد الأسرة أولاً وقبل أي شيء على صحن التمر، ويقطف كل ما يريد من فردات التمر، ثم يتبعه برشفات من اللبن، وبعد فينة، يبدأ الإفطار على بقية أطباق المائدة.
في أحد أيام الشهر، تخلف أحد الأطفال عن مد يده على طبق التمر، واختار بيده الصغيرة، لقمة المكبوس، ولكنه قبل أن يلثم اللقمة تلقى لكزة من ذراع أبيه، منبهاً إياه، بأن ما فعله خطأ سلوكي ترفضه السُنة، فانبرت الأم تدافع عن ابنها، الذي انكفأ على نفسه كقط مكلوم، ولكن الأب لم تستفزه كلمات الزوجة، بل تراجع عن عصبيته، وتحكم بمشاعره، والتزم بداية الصمت، ثم مد يده إلى ابنه، وطلب منه أن ينسى ذلك الموقف، وأن لا يتوقف عند إشارة التنبيه التي صدرت من أبيه، وقال بلهجة حانية، لم أكن لأفعل ذلك لولا إيماني بأن التخلي عن السُنة أمر يجب أن نتفاداه، وأنت تخليت عن تقليد اجتماعي، وسُنة نبوية، وكان من واجبي أن أذكرك. وبينما الرجل يتحدث إلى ابنه، التفتت الأم ناحية ابنها وقالت له، كلام أبيك صحيح يا حبيبي، ويجب أن تشكره، لأنه أراد فقط أن يذكرك بالواجب الديني وهذا دوره، كأب، ومسؤوليته كولي أمر.
رفع الولد رأسه، ونظر إلى أبيه ثم رفع جسده وهمّ بتقبيل أبيه على رأسه، ثم فعل الشيء نفسه مع أمه وقال: شكراً لكما، أبي، وأمي، وأعدكما بأنني لن أكرر هذا الخطأ.
ابتسم الأب، وكذلك الأم، تناول الجميع وجبة الإفطار، بعد أن تلقى الولد درساً مفيداً، جعله في محفظة الذاكرة، يقيناً لا يتزحزح عنه.
وفي اليوم التالي، راقب الأب ابنه، ليعرف كيف سيتصرف، فإذا بالصغير، يمد يده ناحية طبق التمر، وابتسم الأب، وشكر ابنه، على استيعاب الدرس الأول في حياته.
أما الأم، فكانت تنظر إلى الاثنين باهتمام بالغ، وفي عينيها دمعة فرحة، لما تشاهده من علاقة أنعم من ملمس الحرير، وأعذب من ريق الطفولة، وأجمل من ابتسامة الوردة عند عتبة باب يطل على تاريخ مر عليه خلاله رمضان بحكاياته الشاعرية، وقصصه الملهمة، وشخوصه الملفتة، وأحداثه المؤثرة. وفي رمضان، ليس الصوم وحده، وإنما أيضاً الدروس التي تستوعب من ساعات نهاره، وليله، وبخاصة، عندما تكون الأسرة مثل دائرة، يقف الأب في نقطة الارتكاز، وبقية أفراد الأسرة، هم المحيط الدافئ الذي يطوق مشاعر هذا الكيان المقدس، كيان الأسرة. شهر رمضان جميل، بمعطياته الإنسانية، وشواهده التربوية. شهر رمضان يأتي في السنة مرة واحدة، ولكن الذكريات التي يتركها في الأذهان لها بريق النجوم، ودمعة القبلات الساخنة على خد وحيد، رمضان شهر تزدهر فيه الأحلام، وتكبر دائرة الخيال، ويصبح الوعي الإنساني مثل شارع مغموس في غابة أشجارها من طين الطفولة. شهر رمضان، كائن حي، يمارس نفوذه على الذات الإنسانية، كما هي العيون التي في طرفها حور. شهر رمضان، أنشودة سماوية خالدة، تظل مبهرة، مزدهرة في وجدان الإنسان ما دامت الحياة تباشر في إرواء حقولها بالذاكرة الحية، والنابضة.
رمضان يصبح أكثر بهاء عندما يمر على مشاعر الناس، فيمسح من على سبورتها عناوين الكراهية، والأنانية، وصور التعالي، ومشاهد الخراب الداخلي.